كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ وَالتَّمْثِيلِ الْمُفْهِمِ لِلْإِعْيَاءِ وَشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَتِ الرَّحِمُ مِمَّنْ يَعْقِلُ وَيَتَكَلَّمُ لَقَالَتْ هَذَا الْكَلَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ- ثُمَّ قَالَ- وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" «١». وَقَوْلُهُ:] فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ [مَقْصُودُ هَذَا الْكَلَامِ الْإِخْبَارُ بِتَأَكُّدِ أَمْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَزَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَجَارَ بِهِ فَأَجَارَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَخِفَارَتِهِ»
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَارُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْذُولٍ وَعَهْدُهُ غَيْرُ مَنْقُوضٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّحِمِ:] أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ [. وَهَذَا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:] وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبُهُ بِذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكُهُ ثُمَّ يَكُبُّهُ فِي النَّارِ على وجهه [.

[سورة محمد (٤٧): آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما عَرَفُوا نَعْتَهُ عِنْدَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، قَعَدُوا عن القتال بعد ما عَلِمُوهُ فِي الْقُرْآنِ." الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ" أَيْ زَيَّنَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ." وَأَمْلى لَهُمْ" أَيْ مَدَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا. وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْلَى لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَمَدَّ فِي آجَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْمُفَضَّلُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنًى" أَمْلى لَهُمْ" أَمْهَلَهُمْ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْلَى لَهُمْ بِالْإِمْهَالِ فِي عَذَابِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ" وَأَمْلى لَهُمْ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ هُرْمُزٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ، إِلَّا أَنَّهُمْ سَكَّنُوا الْيَاءَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنَا أُمْلِي لَهُمْ. وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: لِأَنَّ فتح الهمزة يوهم أن الشيطان
---------------
(١). آية ٢١ سورة الحشر.
(٢). الخفارة (بالضم والكسر): الذمام.

الصفحة 249