كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

[سورة الفتح (٤٨): آية ٢٥]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ". فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا" يَعْنِي قُرَيْشًا، مَنَعُوكُمْ دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِعُمْرَةٍ، وَمَنَعُوا الْهَدْي وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَلَكِنَّهُ حَمَلَتْهُمُ الْأَنَفَةُ وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً" أَيْ مَحْبُوسًا. وَقِيلَ مَوْقُوفًا «١». وَقَالَ أَبُو عمرو ابن الْعَلَاءِ: مَجْمُوعًا. الْجَوْهَرِيُّ: عَكْفُهُ أَيْ حَبْسُهُ وَوَقْفُهُ، يَعْكِفُهُ وَيَعْكُفُهُ عَكْفًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً"، يُقَالُ: مَا عَكَفَكَ عَنْ كَذَا. وَمِنْهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ." أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ" أَيْ مَنْحَرَهُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَرَمُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الْمُحْصَرُ مَحِلُّ هَدْيِهِ الْحَرَمُ. وَالْمَحِلُّ (بِكَسْرِ الْحَاءِ): غَايَةُ الشَّيْءِ. (وَبِالْفَتْحِ): هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّهُ النَّاسُ. وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَهُ مَحِلًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي" الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ" «٢» وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عن جابر
---------------
(١). في الأصول:" واقفا".
(٢). راجع ج ٢ ص ٣٧١ طبعه ثانية.

الصفحة 283