كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

إِذْ تَبَيَّنَتْ لَهُمَا نَارٌ فَاسْتَأْذَنَا فَفُتِحَ الْبَابُ، فَإِذَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ تُغَنِّي وَعَلَى يَدِ الرَّجُلِ قَدَحٌ، فَقَالَ عُمَرُ: وَأَنْتَ بِهَذَا يَا فُلَانُ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ بِهَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ عُمَرُ: فَمَنْ هَذِهِ مِنْكَ؟ قَالَ امْرَأَتِي، قَالَ فَمَا فِي هَذَا الْقَدَحِ؟ قَالَ مَاءٌ زُلَالٌ، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: وَمَا الَّذِي تُغَنِّينَ؟ فَقَالَتْ:
تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ وَاسْوَدَّ جَانِبُهُ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا خَلِيلَ أُلَاعِبُهْ
فَوَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أَنِّي أُرَاقِبُهْ ... لَزُعْزِعَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهْ
وَلَكِنَّ عَقْلِي وَالْحَيَاءَ يَكُفُّنِي ... وَأُكْرِمُ بَعْلِي أَنْ تُنَالَ مَرَاكِبُهْ
ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: مَا بِهَذَا أُمِرْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَجَسَّسُوا". قَالَ صَدَقْتَ. قُلْتُ: لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَةِ الرَّجُلِ، لِأَنَّ عُمَرَ لَا يُقِرُّ عَلَى الزِّنَى، وَإِنَّمَا غَنَّتْ بِتِلْكَ الْأَبْيَاتِ تَذْكَارًا لِزَوْجِهَا، وَأَنَّهَا قَالَتْهَا فِي مَغِيبِهِ عَنْهَا «١». وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهُ أُخْتٌ فَاشْتَكَتْ، فَكَانَ يَعُودُهَا فَمَاتَتْ فَدَفَنَهَا. فَكَانَ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِي قَبْرِهَا، فَسَقَطَ مِنْ كُمِّهِ كِيسٌ فِيهِ دَنَانِيرُ، فَاسْتَعَانَ بِبَعْضِ أَهْلِهِ فَنَبَشُوا قَبْرَهَا فَأَخَذَ الْكِيسَ ثُمَّ قَالَ: لَأَكْشِفَنَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا آلَ حَالُ أُخْتِي إِلَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْهَا فَإِذَا الْقَبْرُ مُشْتَعِلٌ نَارًا، فَجَاءَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ: أَخْبِرِينِي مَا كَانَ عَمَلُ أُخْتِي؟ فَقَالَتْ: قَدْ مَاتَتْ أُخْتُكَ فَمَا سُؤَالُكَ عَنْ عَمَلِهَا! فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى قَالَتْ لَهُ: كَانَ مِنْ عَمَلِهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، وَكَانَتْ إِذَا نَامَ الْجِيرَانُ قَامَتْ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَأَلْقَمَتْ أُذُنَهَا أَبْوَابَهُمْ، فَتَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ وَتُخْرِجُ أَسْرَارَهُمْ، فَقَالَ: بِهَذَا هَلَكَتْ! الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْغِيبَةِ، وَهِيَ أَنْ تَذْكُرَ الرَّجُلَ بِمَا فِيهِ، فَإِنْ ذَكَرْتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ. ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ [؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:] ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ [قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كان في أخي ما أقول؟
---------------
(١). راجع هذه القصة في ج ٣ ص ١٠٨ من هذا الكتاب.

الصفحة 334