كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

وقد يعتبرا لنسب فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِشَجَرَةِ النُّبُوَّةِ أَوْ بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِالْمَرْمُوقِينَ فِي الزُّهْدِ وَالصَّلَاحِ. وَالتَّقِيُّ الْمُؤْمِنُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَاجِرِ النَّسِيبِ، فَإِنْ كَانَا تَقِيَّيْنِ فحينئذ يقدّم النسيب منهما، كما يقدّم الشَّابُّ عَلَى الشَّيْخِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَوَيَا في التقوى.

[سورة الحجرات (٤٩): آية ١٤]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
نَزَلَتْ في أعراب م نبنى أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ وَأَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ. وَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتيناك بالأثقال والعيال ولم تقاتلك كَمَا قَاتَلَكَ بَنُو فُلَانٍ فَأَعْطِنَا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَجَعَلُوا يَمُنُّونَ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ أَرَادُوا أَنْ يَتَسَمَّوْا بِاسْمِ الْهِجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرُوا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ لَهُمْ أَسْمَاءَ الْأَعْرَابِ لَا أَسْمَاءَ الْمُهَاجِرِينَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: أَعْرَابِ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَالدِّيلِ وَأَشْجَعَ، قَالُوا آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ تَخَلَّفُوا، فَنَزَلَتْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ خَاصَّةٌ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى «وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا» أَيِ اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ؟
لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا فِي ظاهر إيمانهم ولم نؤمن قُلُوبُهُمْ، وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَبُولُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ يَحْقِنُ الدَّمَ. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي إِنْ تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ لَا يَلِتْكُمْ أَيْ لَا يُنْقِصُكُمْ. مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً لأنه يلينه ويلونه: نَقَصَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «لَا يَأْلِتُكُمْ» بِالْهَمْزَةِ، من ألت يألت

الصفحة 348