كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 16)

قَالَ الْقَاضِي: وَأَنَا أَقُولُ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ رَمَتْ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكُلِّ مَا افْتَرَتْهُ، وَعَيَّرَ كُفَّارُ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا وَاخْتَلَقَتْهُ، مِمَّا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاةُ، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَفْضِهِ آلِهَتَهُمْ وَتَقْرِيعِهِ بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ. ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، ويتلونه فِي مَعْبُودِهِ مُحْتَجِّينَ، وَلَكَانَ تَوْبِيخُهُمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ قَبْلُ أَفْظَعَ وَأَقْطَعَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ تَوْبِيخِهِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكِهِ آلِهَتَهُمْ وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ، فَفِي إِطْبَاقِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَقَالُوا" مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها" «١» [البقرة: ١٤٢] كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. الثَّالِثَةُ- وَتَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِدِينٍ قَبْلَ الْوَحْيِ أَمْ لَا، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَأَحَالَهُ عَقْلًا. قَالُوا: لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا مَنْ عُرِفَ تَابِعًا، وَبَنَوْا هَذَا عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى بِالْوَقْفِ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكِ قَطْعِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يُحِلِ الْوَجْهَيْنِ مِنْهُمَا الْعَقْلُ وَلَا اسْتَبَانَ عِنْدَهَا «٢» فِي أَحَدِهِمَا طَرِيقُ النَّقْلِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي الْمَعَالِي. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَعَامِلًا بِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعْيِينِ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ عِيسَى فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِجَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ قَبْلَهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَى دِينٍ مَنْسُوخٍ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، لِأَنَّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ مُوسَى، لِأَنَّهُ أَقْدَمُ الْأَدْيَانِ. وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى دِينٍ وَلَكِنْ عَيْنُ الدِّينِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ عِنْدَنَا. وَقَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا أَئِمَّتُنَا، إِذْ هِيَ أَقْوَالٌ مُتَعَارِضَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نِسْبَةً تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْ أُمَّتِهِ وَمُخَاطَبًا بِكُلِّ شَرِيعَتِهِ، بَلْ شَرِيعَتُهُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا مُفْتَتَحَةٌ مِنْ عِنْدِ الله الحاكم عز وجل وأنه
---------------
(١). راجع ج ٢ ص ١٤٧
(٢). في الأصول:" عندهما".

الصفحة 57