كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 16)
[سورة الشورى (42): الآيات 30 الى 31]
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ" بِمَا كَسَبَتْ" بِغَيْرِ فَاءٍ. الْبَاقُونَ" فَبِما" بِالْفَاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِلزِّيَادَةِ فِي الْحَرْفِ وَالْأَجْرِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: إِنْ قَدَّرْتَ أَنَّ" مَا" الْمَوْصُولَةُ جَازَ حَذْفُ الْفَاءِ وَإِثْبَاتُهَا، وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ. وَإِنْ قَدَّرْتَهَا الَّتِي لِلشَّرْطِ لَمْ يَجُزِ الْحَذْفُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَأَجَازَهُ الْأَخْفَشُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" «1» [الانعام: 121]. وَالْمُصِيبَةُ هُنَا الْحُدُودُ عَلَى الْمَعَاصِي، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا تَعَلَّمَ رَجُلٌ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" ثُمَّ قَالَ: وَأَيُّ مُصِيبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا هَذَا عَلَى التَّرْكِ، فَأَمَّا الَّذِي هُوَ دَائِبٌ فِي تِلَاوَتِهِ حَرِيصٌ عَلَى حِفْظِهِ إِلَّا أَنَّ النِّسْيَانَ يغلبه فليس من ذلك في شي. وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْسَى الشَّيْءَ مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى يَذْكُرَهُ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعَ قِرَاءَةَ رجل في المسجد فقال: (ماله رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَاتٍ كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا). وَقِيلَ:" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، وَالْمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ فِيمَا مَضَى بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ يُكَفِّرُ عَنِّي بِالْمَصَائِبِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ فَمَا يَبْقَى بَعْدَ كَفَّارَتِهِ وَعَفْوِهِ! وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مَرْفُوعًا عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَدَّثَنَا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" الْآيَةَ: (يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَيْكُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الآخرة وما عفا عنه
__________
(1). آية 121 سورة الانعام.
الصفحة 30
504