كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 16)
انفاق مال كُلِّهِ وَحِينَ شُتِمَ فَحَلُمَ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَ لِأَبِي بَكْرٍ مَالٌ مَرَّةً، فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ، فَلَامَهُ الْمُسْلِمُونَ وَخَطَّأَهُ الْكَافِرُونَ فَنَزَلَتْ:" فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَتَمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، يُشْفِقُونَ عَلَى ظَالِمِهِمْ وَيَصْفَحُونَ لِمَنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَفْوَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ:" وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ" «1» [آل عمران: 134]. وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَكَ الرَّجُلُ فَتَكْظِمَ غَيْظَكَ عَنْهُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
إِنِّي عَفَوْتُ لِظَالِمِي ظُلْمِي ... وَوَهَبْتُ ذاك له على علمي
ما زال يَظْلِمُنِي وَأَرْحَمُهُ ... حَتَّى بَكَيْتُ لَهُ مِنَ الظُّلْمِ
[سورة الشورى (42): آية 38]
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ" قال عبد الرحمن ابن زَيْدٍ: هُمُ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ، اسْتَجَابُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ حِينَ أَنْفَذَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا مِنْهُمْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ." وَأَقامُوا الصَّلاةَ" أَيْ أَدَّوْهَا لمواقيتها بشروطها وهيئاتها. الثانية- قوله تعالى:" وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ" أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي الْأُمُورِ. وَالشُّورَى مَصْدَرُ شَاوَرْتُهُ، مِثْلُ الْبُشْرَى وَالذِّكْرَى وَنَحْوَهُ. فَكَانَتِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا تَشَاوَرُوا فِيهِ ثُمَّ عَمِلُوا عَلَيْهِ، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ إِنَّهُمْ لِانْقِيَادِهِمْ إِلَى الرَّأْيِ فِي أُمُورِهِمْ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ، فَمُدِحُوا بِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أُمُورِهِمْ. وقال
__________
(1). آية 134 راجع ج 4 ص 206
الصفحة 36
504