كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 16)

مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ" «1» [البقرة: 135] وقال:" أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ" «2» [النحل: 12] وقال:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ" «3» [الشورى: 13] الْآيَةَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعٍ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِقَامَةِ الدِّينِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ" [الشورى: 13] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الرَّابِعَةُ- إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ". فَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى الْإِيمَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَرَائِعُ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمُهُ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: تَفَاصِيلُ هَذَا الشَّرْعِ، أَيْ كُنْتَ غَافِلًا عَنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ. وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِيمَانِ عَلَى تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ، وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَنَحْوَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. وَقَالَ بَكْرٌ الْقَاضِي: وَلَا الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ: وَكَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ ثُمَّ نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْلُ، فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: عَنَى بِالْإِيمَانِ الصَّلَاةَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" «4» [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ اللَّفْظُ عَامًّا وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَيْ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا أَهْلَ الْإِيمَانِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ؟ أَبُو طَالِبٍ أَوِ الْعَبَّاسُ أَوْ غَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي شَيْئًا إِذْ كُنْتَ فِي الْمَهْدِ وَقَبْلَ الْبُلُوغِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ نَحْوَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَالَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ لَوْلَا الرِّسَالَةُ، وَلَا الْإِيمَانُ لَوْلَا الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ لَوْلَا إِنْعَامُنَا عَلَيْكَ، وَلَا الْإِيمَانُ لَوْلَا هِدَايَتُنَا لَكَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ. وَفِي هَذَا الْإِيمَانِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ نُبُوَّتِهِ. وَالثَّانِي- أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لَا يَعْرِفُهُ إلا بعد النبوة.
__________
(1). آية 135 سورة البقرة.
(2). آية 123 سورة النحل.
(3). آية 13 من هذه السورة.
(4). آية 135 سورة البقرة.

الصفحة 59