كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 16)

قَالَ:" مِنْ أَنْفُسِكُمْ" لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ." وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً" يَعْنِي الثَّمَانِيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي" الْأَنْعَامِ" «1» ذُكُورَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَإِنَاثَهَا." يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ" أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيُنْشِئُكُمْ" فِيهِ" أَيْ فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ كَيْسَانَ:" فِيهِ" بِمَعْنَى بِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى" يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ" يُكَثِّركُمْ بِهِ، أَيْ يُكَثِّركُمْ يَجْعَلُكُمْ أَزْوَاجًا، أَيْ حَلَائِلُ، لِأَنَّهُنَّ سَبَبُ النَّسْلِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ فِي" فِيهِ" لِلْجَعْلِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ" جَعَلَ"، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَخْلُقُكُمْ وَيُكَثِّرُكُمْ فِي الْجَعْلِ. ابْنُ قُتَيْبَةَ:" يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ" أَيْ فِي الزَّوْجِ، أَيْ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ. وَقَالَ: وَيَكُونُ" فِيهِ" فِي الرَّحِمِ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ الرَّحِمَ مُؤَنَّثَةٌ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ." لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" قِيلَ: إِنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، أَيْ لَيْسَ مثله شي. قَالَ:
وَصَالِيَاتٍ كَكُمَا يُؤْثَفَيْنَ «2»

فَأَدْخَلَ عَلَى الْكَافِ كَافًا تَأْكِيدًا لِلتَّشْبِيهِ. وَقِيلَ: الْمِثْلُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وهو قول ثعلب: ليس كهو شي، نَحْوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" «3». [البقرة: 137]. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" فَإِنْ آمَنُوا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّ ... خِيلِ يَغْشَاهُمْ مَطَرٌ مُنْهَمِرُ
أَيْ كَجُذُوعِ. وَالَّذِي يَعْتَقِدُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ وَعَلِيِّ صِفَاتِهِ، لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا يُشْبَّهُ بِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِمَّا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَلَا تَشَابُهَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الحقيقي، إذ صفات القديم عز وجل بِخِلَافِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، إِذْ صِفَاتُهُمْ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْأَعْرَاضِ، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ لَمْ يَزَلْ بِأَسْمَائِهِ وَبِصِفَاتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي (الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ
__________
(1). راجع ج 7 ص 113 طبعه أولى أو ثانية.
(2). الصاليات: الأثافي، وهي الأحجار التي ينصب عليها القدر. ومعنى يؤثفين: ينصبن للقدر. (راجع خزانة الأدب في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة وكتاب سيبويه). [ ..... ]
(3). آية 137 سورة البقرة.

الصفحة 8