كتاب أثر تاريخ النص الحديثي في توجيه المعاني

قلت: أنَّه لْمَّا كان للفظة "كَافِر" في قوله: " فَعَلْنَاهَا وَهَذَا يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ بِالْعُرُشِ، يَعْنِي بُيُوتَ مَكَّةَ " في الحديث وَجْهَانِ، إمَّا بمعنى "كفر" أي قرية، وإمَّا بمعنى الكفر أي الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فاستخدم الإمام النَّووي تاريخ النَّص الحديثي لبيان أي هذه المعاني يقصد بها في هذا الحديث؛ فاستند إلى أنَّ هذا النَّص كان في عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، فرجح المقصود باللفظة وهو الكفر بمعنى الجحود وعدم الإيمان برسالة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَعُلِمَ مقصود سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على الوجه الصَّحيح.

المثال الثالث: ما أَخْرَجَهُ الإمَامُ مَالِكٌ في الموطأ من رواية يَحْيَى، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ » قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ، قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". (1)

قَالَ ابْنُ عَبْدُ البَر في الاستذكار: "وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِهِ الْمَبْسُوطِ (2) فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاكِيًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ
__________
(1) مالك بن أنس الأصبحي المدني، الموطأ، باب مَا جَاءَ فِي الاِسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ، كتاب الاسْتِسْقَاء، (2/ 268)، رقم: 653.
(2) كتاب الْمَبْسُوطِ (في نُصُوص الشَّافِعِي) جمعه البيهقي، وهو كتاب عظيم وصفه السٌُّبكي فقال: "وَأما الْمَبْسُوط فِي نُصُوص الشَّافِعِي فَمَا صُنف فِي نَوعه مثله"، كما في طبقات الشافعية الكبرى (4/ 9)، وأشار بروكلمان إلى وجود نسخة منه في مكتبة بودليانا بعنوان: " نصوص الإمام الشافعي"، كما في تاريخ الأدب العربي (6/ 232).

الصفحة 20