كتاب أثر تاريخ النص الحديثي في توجيه المعاني

قال النَّووي في شرح مسلم: " قوله: "وجاء رسول بن الْعَلْمَاءِ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ اللامِ وَبِالْمَدِّ، وقَوْلُهُ "وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ" فِيهِ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكَافِرِ وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِرِ وَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ الْبَغْلَةُ هي دُلْدُل بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة، لَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ هُنَا أَنَّهُ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَغْلَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَحَضَرَ عَلَيْهَا غَزَاةَ حُنَيْنٍ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَانَتْ حُنَيْنٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ غَيْرُهَا قَالَ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَهْدَاهَا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ عَطَفَ الإِهْدَاءَ عَلَى الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ". (1)

قلت: عَرَضَ الإمامُ النَّووي الاسْتِشْكَال في متن الحديث قَوْلُهُ "وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ"، وكون أنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الحديث هُنَا أَنَّهُ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وهي سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وهو تاريخ النَّص، وبين أنَّ هَذِهِ الْبَغْلَةُ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَضَرَ عَلَيْهَا غَزَاةَ حُنَيْنٍ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَكَانَتْ حُنَيْنٌ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فجمع بينهما بقوله: " فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَهْدَاهَا لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ عَطَفَ الإِهْدَاءَ عَلَى الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ وَهِيَ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ "، فَزَال عنه الاسْتِشْكَال، فعلم فائدة تاريخ النَّص في الجمع بين الْمَرْويَّات.

المثال الثالث: ما أَخْرَجَهُ الإمَامُ مَالِكٌ في الموطأ من رواية يَحْيَى فقال: " عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) يَحْيَى بن شرف النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، (15/ 42 - 43).

الصفحة 32