كتاب الأحكام السلطانية للماوردي

والفرق بين الاجتهادين أنَّ الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالعرف، ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع الاجتهاد فيه. ولوالي الحسبة أن يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في ملك أو مباح، إلا في أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنه فيها بنقله منها، واختلف في جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوزه الزبيري وأباه غيره.
ويمنع من خصاء الآدميين والبهائم، ويؤدب عليه، وإن استحق فيه قودًا أو دية استوفاه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع.
ويمنع من خضاب الشيب بالسواد، إلا للمجاهدة في سبيل الله، ويؤدب من يصبغ به للنساء، ولا يمتنع من الخضاب بالحناء والكتم، فيمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. وهذا فصل يطول أن يبسط؛ لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى، وفيما ذكرناه من شواهدنا دليل على ما أغفلناه.
والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها؛ ولكن لما أعرض عنها السلطان، وندب لها من هان، وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا لان أمرها وهان على الناس خطرها، وليس إذا وقع الإخلال بقاعدة سقط حكمها، وقد أغفل الفقهاء عن بيان أحكامها ما لم يجز الإخلال به، وإن كان أكثر كتابنا هذا يشتمل على ما قد أغفله الفقهاء أو قصروا فيه، فذكرنا ما أغفلوه، واستوفينا ما قصروا فيه.
وأنا أسأل الله توفيقًا لما توخيناه، وعونًا على ما نويناه بمنِّه ومشيئته؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.
تم بحمد الله وعونه كتاب
الأحكام السلطانية والولايات الدينية
لقاضي القضاة
أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي.
والحمد الله أولًا وآخرًا، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

الصفحة 373