كتاب التصوف - المنشأ والمصادر

وأخبر أن الخير فيها , وأن الشر في تعدِّيها - إلى غير ذلك , لأن الله يعلم ونحن لا نعلم , وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌ لهذا كله , فإنه يزعم أن ثمَّ طرقا أخر , ليس ما حصره الشارع بمحصور , ولا ماعينه بمتعين , كأن الشارع يعلم , ونحن أيضا نعلم. بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع , أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع , وإن كان غير مقصود , فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العبد العزيز رضي الله عنه, إذ كتب له عديُّ بن أرطاه يستشيره في بعض القدرية , فكتب إليه.
(أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتِّباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته , فعليك بلزوم السنة , فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق , فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم , فإنهم على علم وقفوا , وببصر نافذ , قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى , وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم , ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم , ورغب بنفسه عنهم , إنهم لهم السابقون , فقد تكلموا منه ما يكفي , ووصفوا منه ما يشفي , فما دونهم مقصر , وما فوقهم محسر , لقد قصر عنهم آخرون فقلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم).
ثم ختم الكتاب بحكم مسئلته.
فقوله: (فإن السنة إنما سنها من قد عرف مافي خلافها) فهو مقصود الأستشهاد.
والرابع: إن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع , لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سنتها , وصار هو المنفرد بذلك , لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع , ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا , حيث شرع مع

الصفحة 18