كتاب التصوف - المنشأ والمصادر

وقال النفزي الرندي:
(في قلوب الأحرار قبور الأسرار , والسر أمانة الله تعالى عند العبد , فافشى بالتعبير عنه خيانة , والله تعالى لا يحب الخائنين , وأيضا فإن الأمور المشهودة لا يستعمل فيها إلا الإشارة والإيماء , واستعمال العبارات فيها إفصاح بها وإشهار لها , وفي ذلك ابتذالها وإذاعتها , ثم إن العبارة عنها لا تزيدها إلا غموضا وانغلاقا , لأن الأمور الذوقية يستحيل إدراك حقائقها بالعبارات النطقية , فيؤدي ذلك إلى الإنكار والقدح في علوم السادة الأخيار.
قال أبو علي الروذباري رضي الله تعالى عنه: علمنا هذا إشارة , فإذا صار عبارة خفي) (¬1).

وأما لسان الدين بن الخطيب فقال:
(حملة علم النبوة هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل , قالوا: وهذا العلم هو الذي لا يجوز كشفه , ولا إذاعته ولا ادعاؤه , ومن كشفه وأذاعه وجب قتله واستحل دمه وينسبون في ذلك إلى خواص النبوة وخلفائها كثيرا كقوله:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا) (¬2) ز

وكان كبار المتصوفة يعملون بهذا المبدأ , ولم يكونوا يظهرون للناس علومهم وأفكارهم كما روى الكلاباذي عن الجنيد أنه قال للشبلي:
(نحن حبّرنا هذا العلم تحبيرا , ثم خبأناه في السراديب , فجئت أنت , فأظهرته على رؤوس الملأ.
فقال: أنا أقول وأنا أسمع , فهل في الجارين غيري) (¬3).

ونقل الشعراني كذلك عن الجنيد أنه (كان يستر كلام أهل الطريق عمن ليس
¬_________
(¬1) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 214.
(¬2) روضة التعريف بالحب الشريف ص 432.
(¬3) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 172 ط القاهرة.

الصفحة 240