كتاب التصوف - المنشأ والمصادر

يستجلب الملامة والذم , أم من (العارفين) الذين لم يأبهوا بمظاهر الشرع ورسومه ولا بأخلاق هذا العالم الزائل .... وقد سبق أن ذكرنا أن الصوفية اعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار العلم الباطن المودع في القرآن والحديث , وأنهم استعملوا في التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارات التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين) (¬1).

وسبب آخر أنهم تقوّلوا بكلمات كلها كفر وإلحاد , ونقل عن الباطنية والتشيع والفرق الباطلة الأخرى , فلما سمع العلماء هذه المقولات كفروهم بها , ورموهم بالإلحاد والزندقة فلم يسعهم آنذاك إلا القول بالظاهر والباطن , والهروب إلى التأويل , وفي كتب التصوف أمثلة كثيرة مبعثرة في ذلك.

فمثلا الطوسي يذكر متصوفة كثيرين رموا بالزندقة والإلحاد , ولكنه يبرّء ساحتهم من هذه التهم بهذه المقولة , فمثلا يقول عن عبد الله الحسين بن مكي الصبيحي أنه (تكلم بشيء من علم الأسماء والصفات وعلم الحروف فكفره أبو عبد الله الزبيري , وهيّج عليه العامة , فقال: إن سهل بن عبد الله قال له: نحن فتحنا للناس جراب الهلتيت فلم يصبروا علينا , فلم كلمتهم أنت بما لا يعرفون , فكان ذلك سبب خروجه من البصرة , ثم قال: وكان إذا تكلم بعلوم المعارف يدهش العالم) (¬2).

ومثل ذلك ذكر أبا سعيد أحمد بن عيسى الخراز فقال:
(أنكر عليه جماعة من العلماء , ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنّفه وهو: كتاب السرّ , فلم يفهموا معناه , وهو قوله: عبد رجع إلى الله , وتعلق بالذكر , وذكر في قرب الله وطالع ما أذن له من التعظيم لله , ونسي نفسه وما سوى الله , فلو قلت له: من أين أنت وأين تريد؟ لم يكن جواب غير قول (الله)) (¬3).

هذا , وذكر الآخرين كذلك , وقبل ذلك عللّ سبب تكفير العلماء إياهم بقوله:

(فمنهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل
¬_________
(¬1) في التصوف الإسلامي وتاريخه لنيكلسون ترجمة عربية لأبي العلاء العفيفي ص 76 , 77.
(¬2) انظر كتاب اللمع للطوسي ص 500.
(¬3) أيضا ص 499.

الصفحة 252