كتاب التصوف - المنشأ والمصادر

لهم إلى ظاهر اللبسة , لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام.

وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام).

وقيل: إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر , ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى.
وقال الحسن البصري رضي الله عنه: لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف , ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا: كانوا يخرون من الجوع حتى يحسبهم الأعراب مجانين , وكان لباسهم الصوف حتى إن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث. وقال بعضهم: إنه ليؤذيني ريح هؤلاء , أما يؤذيك ريحهم يا رسول الله صلى عليه وسلم بذلك , فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا , وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة , واستغراقهم في أمر الآخرة , فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحاتها , لشدة شغلهم بخدمة مولاهم , وانصراف هممهم إلى أمر الآخرة , وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق , لأنه يقال (تصوف) إذا لبس الصوف , كما يقال (تقمص) إذا لبس القميص.
ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه , لا يفيدهم وصف ولا يحسبهم نعت , وأبواب المزيد علماً وحالاً عليهم مفتوحة , وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم , فلما تعذر تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم , نسبوا إلى ظاهر اللبسة. وكان ذلك أبين في الأشارة إليهم , وأدعى إلى حصر وصفهم , لأن لبس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلفهم , وأيضا لأن حالهم حال المقربين كما سبق ذكره , ولما كان الإعتزاء إلى القرب وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه .. وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم وغيرة على عزيز مقامهم أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة , فكان هذا أقرب إلى الأدب , والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية.

وفيه معنى آخر: وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم , حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل ,

الصفحة 26