كتاب شرح حديث النزول

الْعَرْشِ} [الفرقان: 59] ، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] غير متصل بالخلق ولا مفارق، وغير مماس للكون ولا متباعد، بل منفرد بنفسه، متوحد بوصفه، لا يزدوج إلى شيء، ولا يقترن به شيء، أقرب من كل شيء بقرب هو وصفه، وهو محيط بكل شيء بحيطة هى نعته، وهو مع كل شيء، وفوق كل شيء، وأمام كل شيء، ووراء كل شيء؛ بعلوه ودنوه، وهو قربه، فهو وراء الحول الذي هو وراء حملة العرش، وهو أقرب من حبل الوريد الذي هو الروح، وهو مع ذلك فوق كل شيء وهو محيط بكل شيء، وليس هو تعالى في هذا مكانًا لشيء ولا مكانًا له شيء، وليس كمثله في كل هذا شيء، لا شريك له في ملكه ولا معين له في خلقه، ولا نظير له في عباده، ولا شبيه له في إيجاده، وهو أول في آخريته بأولية هى صفته، وآخر في أوليته بآخرية هى نعته، وباطن في ظهوره بباطنية هى قربه، وظاهر في باطنيته بظهور هو علوه، لم يزل كذلك أولا، ولا يزال كذلك آخرًا، ولم يزل كذلك باطنًا، ولا يزال كذلك ظاهرًا.
إلى أن قال: هو على عرشه بإخباره لنفسه؛ فالعرش حد خلقه الأعلى وهو غير محدود بعرشه؛ والعرش محتاج إلى مكان، والرب ـ عز وجل ـ غير محتاج إليه؛ كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] الرحمن اسم، والاستواءنعته، متصل بذاته والعرش خلقه منفصل عن صفاته، ليس بمضطر إلى مكان يسعه ولا حامل يحمله.
إلى أن قال: وهو لا يسعه غير مشيئته، ولا يظهر إلا في أنوار صفته، ولا يوجد إلا في سعة البسطة. فإذا قبض أخفي ما أبدى، وإذا بسط أعاد ما أخفي. وكذلك جعله في كل رسم كون، وفعله بكل اسم مكان، ومما جل فظهر ومما دق فاستتر، لا يسعه غير مشيئته بقربه، ولا يعرف إلا بشهوده، ولا يرى إلا بنوره، هذا لأوليائه اليوم بالغيب في القلوب، ولهم ذلك عند المشاهدة بالأبصار، ولا يعرف إلا بمشيئته، إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن لم يشأ لم يسعه كل شيء، إن أراد عرفه كل شيء، وإن لم يرد لم يعرفه شيء، إن

الصفحة 121