كتاب شرح حديث النزول

فإنه من نفاة علو الله نفسه على العرش، وإنما المراد عنده أنه قادر عليه مستول عليه، أو أنه أفضل منه. قال: وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله والمعنى الذي أراده، استواء منزهًا عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطيف قدرته، مقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقيته لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام، وأنه لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، إلى أن قال: وإنه بائن بصفاته من خلقه، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته.
قلت: فالفوقية التي ذكرها في القدرة والاستيلاء [فوقية القدرة] ، وهو أنه أفضل المخلوقات، و [القرب] الذي ذكره هو العلم أو هو العلم والقدرة. وثبوت علمه وقدرته واستيلائه على كل شيء هو مما اتفق عليه المسلمون، وتفسير قربه بهذا قاله جماعة من العلماء، لظنهم أن القرب في الآية هو قربه وحده، ففسروها بالعلم لما رأوا ذلك عامًا. قالوا: هو قريب من كل موجود بمعنى العلم، وهذا لا يحتاج إليه كما تقدم، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لا يجوز أن يراد به مجرد العلم؛ فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره لمجرد علمه به، ولا لمجرد قدرته عليه.
ثم إنه ـ سبحانه وتعالى ـ عالم بما يسر من القول وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيص حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ليس قريبًا إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14] وقال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفي}

الصفحة 132