كتاب شرح حديث النزول

وذلك لأن الله ـ سبحانه ـ قريب من قلب الداعي، فهو أقرب إليه من عنق راحلته. وقربه من قلب الداعي له معنى متفق عليه بين أهل الإثبات الذين يقولون: إن الله فوق العرش، ومعنى آخر فيه نزاع.
فالمعنى المتفق عليه عندهم يكون بتقريبه قلب الداعي إليه، كما يقرب إليه قلب الساجد؛ كما ثبت في الصحيح: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " فالساجد يقرب الرب إليه فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض. ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر صار الآخر إليه قريبًا بالضرورة. وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة قربت مكة منه. وقد وصف الله أنه يقرب إليه من يقربه من الملائكة والبشر، فقال: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89] ، وقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28] ، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] .
وأما قرب الرب قربًا يقوم به بفعله القائم بنفسه، فهذا تنفيه الكُلابية ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته. وأما السلف وأئمة الحديث والسنة، فلا يمنعون ذلك، وكذلك كثير من أهل الكلام. فنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، ونزوله عشية عرفة، ونحو ذلك هو من هذا الباب؛ ولهذا حد النزول بأنه إلى السماء الدنيا، وكذلك تكليمه لموسى ـ عليه السلام ـ فإنهلو أريد مجرد تقريب الحجاج وقوام الليل إليه، لم يخص نزوله بسماء الدنيا، كما لم يخص ذلكفي إجابة الداعي وقرب العابدين له، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . وقال: " من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا "

الصفحة 137