كتاب شرح حديث النزول

ولا يقال: هذه المقالة صحيحة في نفسها، فإنها لولا خلق الله للأشياء لم تكن موجودة، ولولا إبقاؤه لها لم تكن باقية. وقد تكلم النظار في سبب افتقارها إليه: هل هو الحدوث، فلا تحتاج إلا في حال الإحداث كما يقول ذلك من يقوله من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، أو هو الإمكان الذي يظن أنه يكون بلا حدوث بل بكون الممكن المعلول قديمًا أزليًا، ويمكن افتقارها في حال البقاء بلا حدوث كما يقوله ابن سينا وطائفة.
وكلا القولين خطأ، كما قد بسط في موضعه، وبين أن الإمكان والحدوث متلازمان كما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه؛ فإنهم أيضًا يقولون: إن كل ممكن فهو محدث، وإنما خالفهم في ذلك ابن سينا وطائفة؛ ولهذا أنكر ذلك عليه إخوانه من الفلاسفة كابن رشد وغيره، والمخلوقات مفتقرة إلى الخالق، فالفقر وصف لازم لها دائما لا تزال مفتقرة إليه.
والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقرًا بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته لا تكون ذاته إلا فقيرة فقرًا لازمًا لها، ولا يستغنى إلا بالله.
وهذا من معاني [الصمد] ، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغنى عن كل شيء. بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم، وهذا تحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
فلو لم يخلق شيئًا بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله، فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته، وإلا كانت أعمالًا فاسدة؛ فإن الحركات تفتقر إلى العلة الغائية كما افتقرت إلى العلة الفاعلية، بل العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلًا، ولولا ذلك لم يفعل.
فلولا أنه المعبود المحبوب لذاته لم يصلح قط شيء من الأعمال والحركات، بل كان العالم يفسد، وهذا معنى

الصفحة 141