كتاب شرح حديث النزول

ولهذا أنكر الإمام أحمد هذا الإطلاق على [داود] لما كتب إليه أنه تكلم بذلك، فظن الذين يتكلمون بهذا الاصطلاح أنه أراد هذا فأنكره أئمة السنة. وداود نفسه لم يكن هذا قصده، بل هو وأئمة أصحابه متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، وإنما كان مقصوده أنه قائم بنفسه، وهو قول غير واحد من أئمة السلف، وهو قول البخاري وغيره.
والنزاع في ذلك بين أهل السنة لفظي؛ فإنهم متفقون على أنه ليس بمخلوق منفصل، ومتفقون على أن كلام الله قائم بذاته، وكان أئمة السنة، كأحمد وأمثاله، والبخاري وأمثاله، وداود وأمثاله، وابن المبارك وأمثاله، وابن خزيمة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وابن أبي شيبة وغيرهم، متفقين على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن قديم، وأول من شهر عنه أنه قال ذلك هو ابن كُلاب.
وكان الإمام أحمد يحذر من الكُلابية، وأمر بهجر الحارث المحاسبي لكونه كان منهم، وقد قيل عن الحارث: إنه رجع في القرآن عن قول ابن كُلاب، وإنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت. وممن ذكر ذلك عنه الكلاباذي في كتاب [التعرف لمذهب التصوف] .
والمقصود هنا أن قول القائل: لو كان خلقه للأشياء ليس هو الأشياء، لافتقر الخلق إلى خلق آخر فيكون الخلق مخلوقًا ـ ممنوع، بل الخلق يحصل بقدرة الرب ومشيئته، والمخلوق يحصل بالخلق.
وأما المقدمة الخامسة: وهو أن ذلك يفضى إلى التسلسل، فهذه المقدمة تقال على وجهين:
أحدهما: أن الخلق يفتقر إلى خلق آخر، وذلك الخلق إلى خلق آخر، كما تقدم.
والثاني: أن يقال: هب أنه لا يفتقر إلى خلق، لكن يفتقر إلى سبب يحصل به الخلق، وإن لم يسم ذلك خلقا، وذلك السبب إنما تم عند وجود الخلق، فتمامه حادث، وكل حادث فلابد له من سبب؛ إذ لو كان ذلك الخلق لا يفتقر إلى سبب حادث للزم وجود الحادث بلا سبب

الصفحة 155