كتاب شرح حديث النزول

العالم الذي يحكونه عن أهل الملل كما تقدم، كما يذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم.
وهذا الأصل الذي ابتدعه الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام، من امتناع دوام فعل الله، وهو الذي بنوا عليه أصول دينهم، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، فقالوا: الأجسام لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث؛ لأن ما لا يخلو عنها ولا يسبقها يكون معها أو بعدها، وما كان مع الحوادث أو بعدها فهو حادث.
وكثير منهم لا يذكر على ذلك دليلًا لكون ذلك ظاهرًا؛ إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين، لكن من تفطن منهم للفرق، فإنه يذكر دليلًا على ذلك بأن يقول: الحوادث لا تدوم بل يمتنع وجود حوادث لا أول لها. ومنهم من يمنع أيضًا وجود حوادث لا آخر لها، كما يقول ذلك إماما هذا الكلام: الجهم بن صفوان وأبو الهذيل.
ولما كان حقيقة هذا القول أن الله ـ سبحانه ـ لم يكن قادرًا على الفعل في الأزل، بل صار قادرًا على الفعل بعد أن لم يكن قادرًا عليه، كان هذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء، حتى إنه كان من البدع التي ذكروها؛ من بدع الأشعري في الفتنة التي جرت بخراسان لما أظهروا لعنة أهل البدع، والقصة مشهورة.
ثم إن أهل الكلام وأئمتهم ـ كالنظام والعلاف وغيرهما من شيوخ المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من سائر الطوائف ـ يقولون: إن دين الإسلام إنما يقوم على هذا الأصل، وإنه لا يعرف أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الأصل؛ فإن معرفة الرسول متوقفة على معرفة المرسل، فلابد من إثبات العلم بالصانع أولا، ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجور عليه.
قالوا: وهذا لا يمكن معرفته إلا بهذه الطريقة، فإنه لا سبيل إلى معرفة الصانع فيما زعموا إلا بمعرفة مخلوقاته، ولا سبيل إلى معرفة حدوث المخلوقات إلا بهذه الطريق فيما زعموا، ويقول أكثرهم: أول ما يجب على الإنسان معرفة الله، ولا يمكن معرفته إلا بهذا الطريق.

الصفحة 161