كتاب شرح حديث النزول

وإنما ألجأه إلى هذا: أن أولئك المتكلمين لما أظهروا موجب أصلهم، وهو القول بأن القرآن مخلوق، أظهروا ذلك في أوائل المائة الثانية، فلما سمع ذلك علماء الأمة أنكروا ذلك، ثم صار كلما ظهر قولهم أنكره العلماء ـ وكلام السلف والأئمة في إنكار ذلك مشهور متواتر ـ إلى أن صار لهؤلاء المتكلمين الكلام المحدث في دولة المأمون عز، وأدخلوه في ذلك، وألقوا إليه الحجج التي لهم.
وقالوا: إما أن يكون العالم مخلوقًا أو قديمًا. وهذا الثاني كفر ظاهر، معلوم فساده بالعقل والشرع. وإذا كان العالم مخلوقًا محدثًا بعد أن لم يكن، لم يبق قديم إلا الله وحده، فلو كان العالم قديمًا، لزم أن يكون مع الله قديم آخر.
وكذلك الكلام إن كان قائمًا بذاته، لزم دوام الحوادث وقيامها بالرب، وهذا يبطل الدليل الذي اشتهر بينهم على حدوث العالم. وإن كان منفصلا ً عنه لزم وجود المخلوق في الأزل، وهذا قول بقدم العالم.
فلما امتحن الناس بذلك، واشتهرت هذه المحنة، وثبت الله من ثبته من أئمة السنة، وكان الإمام ـ الذي ثبته الله وجعله إمامًا للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به، فمن وافقه كان سنيًا، وإلا كان بدعيًا ـ هو الإمام أحمد بن حنبل، فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
وكان المأمون، لما صار إلى الثغر بطرسوس، كتب بالمحنة كتابًا إلى نائبه بالعراق إسحاق بن إبراهيم، فدعا العلماء والفقهاء والقضاة، فامتنعوا عن الإجابة والموافقة، فأعاد عليه الجواب، فكتب كتابًا ثانيًا يقول فيه عن القاضيين ـ بشر بن الوليد، وعبد الرحمن بن إسحاق ـ إن لم يجيبا فاضرب أعناقهما، ويقول عن الباقين: إن لم يجيبوا فقيدهم فأرسلهم إلى. فأجاب القاضيان، وذكرا لأصحابهما أنهما مكرهان، وأجاب أكثر الناس قبل أن يقيدهم لما رأوا الوعيد، ولم يجب ستة أنفس فقيدهم. فلما قيدوا أجاب الباقون إلا اثنين ـ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح النيسابوري [هو أبو الحسن محمد بن نوح بن عبد الله الجُنْد يسابوري، نزيل بغداد، وثقه غير واحد، وحدّث بدمشق ومصر وبغداد، ومات سنة 231هـ] . فأرسلوهما مقيدين إليه، فمات محمد بن نوح في الطريق، ومات

الصفحة 170