كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى

وسدادًا، ويردون المعروف من القول على من جهل عليهم (¬1)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] (¬2) فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (¬3) كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] (¬4).
ومما يبين حلم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم عيينة بن حصن ابن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر. يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (¬5) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزَها عمر حين تلاها عَليه، وكان وقَّافا عند كتاب الله (¬6).
¬_________
(¬1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 326.
(¬2) سورة الشورى، الآية 37.
(¬3) انظر: تفسير ابن كثير 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي 6/ 621.
(¬4) سورة فصلت، الآية 34.
(¬5) سورة الأعراف، الآية 199.
(¬6) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، 8/ 304.

الصفحة 62