كتاب مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة

وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال له حينما قال: ((اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)): ((لقد حجّرت واسعاً))، يريد - صلى الله عليه وسلم - رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال - عز وجل -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه.
وقد أثنى الله - عز وجل - من فعل خلاف ذلك حيث قال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬2).
وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة (¬3).
وحينما بال في المسجد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لدار بين أمرين:

1 - إما أن يقطع عليه بوله فيتضرّر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2 - وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفّ عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (¬4).
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المصالح، وما
¬_________
(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156.
(¬2) سورة الحشر، الآية: 10.
(¬3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/ 439.
(¬4) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/ 325، وشرح النووي على مسلم، 3/ 191.

الصفحة 170