كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 17)

الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وبقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وإليه ذهب قتادة والضحاك، والسُّديُّ وابنُ جُرَيْجٍ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي وقوالوا: لا يجوز المنّ على من قوع في الأسر من الكفار ولا الفداء.
وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا أوقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يَسْتَرِقَّهُمْ أو يمُنَّ عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يُفَادِيهم بالمال أو بأسارى المسلمين. وإليه ذهب ابنُ عمر. وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء. وهو قول الثَّوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) لما كثر المسلمون واشتد سلطناهم أنزل الله في الأسارى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} ، وهذا هو الأصح والاختيار، لأنه عمل به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والخلفاءُ بعده.
روى البخاري عن أبي هريرةَ قال: «بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خيلاً قبل نَجْد، فجاءت برجُل من بني حنيفة، يقال (له) ثُمَامَةُ بنُ أُثَالِ، فربطوه في سَارِيَةٍ من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خيرٌ يا محمد، إن تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكرٍ وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فلك ما شئتَ، حتى كان الغَدُ لقال له: ما عندك يَا ثُمَامَةُ؟ فقال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعمْ عَلَى شكر. فتركه حتى إذا كان بعد الغد قال: ما عند يا ثمامةُ؟ قال: عندي ما قلتُ لك قال: أطْلِقُ اثمامة، فانطلق إلى نخل قريبٍ من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ مِنْ وَجْهِكَ فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، واللهِ ما ك ان من دينٍ أبغَضَ إلَيَّ من دينكَ فأصبح دينُك أحبَّ الدِّين إلَيَّ. واللهِ ما كان من بَلَدٍ أبغضَ إلَيَّ من بلدِكَ فقد أصبح بلدكُ أحبَّ البلادِ إلَيَّ. وإ، خَيْلكَ أخذتني وأنا أريدُ العُمْرَةَ فما ترى؟ فبشَّره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا ولكن أسلمت مع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا واللهِ لا يأتيكُم من اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْكَةٍ حتى يأذن فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قال: أسر أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من عَقِيل فأوثقوه، وكانت ثَقِيفٌ قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَفَداهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالرجلين اللذين أَسَرَتْهُمَا ثَقِيفٌ.

الصفحة 432