كتاب آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (اسم الجزء: 18)
كثر هذه الأيام تحكُّكُ المتفرنجين بالمسائل الدينية وتوثُّبُهم عليها، والذي يسوء الحق إنما هو أن يتصدى الإنسان للتحكُّم في فنٍّ هو فيه أمّي أو تلميذ صغير. إن العاقل الذي لا حظَّ له من الطب إلا مطالعة بعض الكتب، لَيحجزه عقلُه عن التطبب، وهكذا عامةُ الفنون يمتنع العاقل أن يتحكم في فنٍّ منها ليس فنَّه. ولكن الدين شذَّ عن هذه الكلية، فلا تكاد تجد أحدًا يعترف أو يعرف أنه ليس ممن يحقُّ لهم الكلامُ فيه.
يقولون: إنها حرية الفكر! حبَّذا حرية الفكر، ولكن أَمِن حرية الفكر أن يصمد الإنسان لقضيةٍ لم يُتقِن أصولَها، ولا أسبابها وعللها، ولا غوامضها ودقائقَها، فيعبّر فيها على ما خيلت؟ إن حقًّا على العاقل إذا أحبَّ أن يكون حرَّ الفكر أن يختار له موضوعًا ينفذ فكرُه إلى أعماقه، ويتغلغل في دقائقه.
افرِضْ أنك طبيب، وأنه اعترضك بدويٌّ يناقشك في أصول الطب، أو أنك عارف بعلم الفلك الحديث، وعرضَ لك عاميٌّ ينازعك فيه، وكلاهما ــ البدوي والعامي ــ لا يُصغِي إليك حتى توضح له الحجج، أو لا يستطيع في حاله الراهنة أن يفهمها، لأنه لم يتعلم مقدمات ذلك الفن، ولكنه مع ذلك يجزم بما ظهر له، ويرميك بالجهل والغفلة، فهل تعدُّه حرَّ الفكر؟
لقد بلغ بالناس حبُّ الاشتهار بحرية الفكر إلى أن أغفلوا النظر في صواب الفكر وخطائه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد. ولقد يعلم أحدهم أن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو الصواب، ولكن شغفه بأن يقال حرَّ الفكر يضطرُّه إلى مخالفته. فهل يستحق مثل هذا أن يقال له حرَّ الفكر؟
الصفحة 537
636