كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 18)

فَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ. (إِنِّي ظَنَنْتُ) أَيْ أَيْقَنْتُ وَعَلِمْتُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنِّي ظَنَنْتُ إِنْ يُؤَاخِذْنِي اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي عَذَّبَنِي»
فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِعَفْوِهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْنِي بِهَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ ظَنٍّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ يَقِينٌ. وَمِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ شَكٌّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ظَنُّ الْآخِرَةِ يَقِينٌ، وَظَنُّ الدُّنْيَا شَكٌّ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَلَ. (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ أُنْكِرِ الْبَعْثَ، يَعْنِي أَنَّهُ مَا نَجَا إِلَّا بِخَوْفِهِ مِنْ يَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ فَعَمِلَ لِلْآخِرَةِ. (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أَيْ فِي عَيْشٍ يَرْضَاهُ لَا مَكْرُوهَ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: راضِيَةٍ أَيْ مَرْضِيَّةٌ، كَقَوْلِكَ: مَاءٌ دَافِقٌ، أَيْ مَدْفُوقٌ. وَقِيلَ: ذَاتُ رِضًا، أَيْ يَرْضَى بِهَا صَاحِبُهَا. مِثْلَ لَابِنٍ وَتَامِرٍ، أَيْ صَاحِبُ اللَّبَنِ وَالتَّمْرِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَيَصِحُّونَ فَلَا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَيَنْعَمُونَ فَلَا يَرَوْنَ بُؤْسًا أَبَدًا وَيَشِبُّونَ فَلَا يَهْرَمُونَ أَبَدًا (.) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أَيْ عَظِيمَةٌ فِي النُّفُوسِ. (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أَيْ قَرِيبَةُ التَّنَاوُلِ، يَتَنَاوَلُهَا الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالْمُضْطَجِعُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْإِنْسَانِ" «٢». وَالْقُطُوفُ جَمْعُ قِطْفٍ (بِكَسْرِ الْقَافِ) وَهُوَ مَا يُقْطَفُ مِنَ الثِّمَارِ. وَالْقَطْفُ (بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَالْقِطَافُ (بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ) وَقْتُ الْقَطْفِ. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ. (هَنِيئاً) لَا تَكْدِيرَ فِيهِ وَلَا تَنْغِيصَ. (بِما أَسْلَفْتُمْ) قَدَّمْتُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ: كُلُوا بَعْدَ قَوْلِهِ: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لقوله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ومَنْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْجَمْعِ. وَذَكَرَ الضَّحَّاكُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَالْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا فِي أَخِيهِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ أَيْضًا، قَالَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَيَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ وَأَخُوهُ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيَعُمُّ الْمَعْنَى جَمِيعَ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَأَهْلِ السَّعَادَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُوا وَاشْرَبُوا. وقد قيل:
---------------
(١). كذا في نسخ الأصل. ولعلها" فيعذبني" وقد أورد الخطيب في تفسيره هذا القول ولم يذكر فيه هذه الكلمة.
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٣٤.

الصفحة 270