كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 18)

قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) فِيهِ سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) لما أمر المسلمين بترك مولاة الْمُشْرِكِينَ اقْتَضَى ذَلِكَ مُهَاجَرَةَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ التَّنَاكُحُ مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ، فَبَيَّنَ أَحْكَامَ مُهَاجَرَةِ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَرَى الصُّلْحُ مَعَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، فَجَاءَتْ سَعِيدَةُ «1» بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ بَعْدُ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا وَكَانَ كَافِرًا- وَهُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ. وَقِيلَ: مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، ارْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ شَرَطْتَ ذَلِكَ! وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَقِيلَ: جَاءَتْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّهَا. وَقِيلَ: هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمَعَهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْهَا وَحَبَسَهَا، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رُدَّهَا عَلَيْنَا لِلشَّرْطِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ مِمَّا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: أَلَّا يَأْتِيَكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُؤْمِنَاتِ مَا أَنْزَلَ، يُومِئُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي رَدِّ النِّسَاءِ نُسِخَ بِذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ الَّتِي جَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ فَفَرَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ، فَتَزَوَّجَهَا سَهْلُ بن حنيف فولدت له عبد الله، قاله زَيْدُ بْنُ حَبِيبٍ. كَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ الشِّمْرَاخِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ خَالِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُمَيْمَةَ بِنْتِ بِشْرٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. وَهِيَ امْرَأَةُ حَسَّانَ بْنِ الدَّحْدَاحِ، وَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ هِجْرَتِهَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهَا سَعِيدَةُ «2» زَوْجَةُ صَيْفِيِّ بْنِ الرَّاهِبِ مُشْرِكٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَالْأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا أُمُّ كلثوم بنت عقبة.
__________
(1). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.
(2). في الأصل المطبوع:" سبيعة" وهو تحريف. راجع أسد الغابة ج 5 ص 745.

الصفحة 61