كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 19)

وفي أيامه سقطت المُكوس، وألبَس أهلَ الذمة الغيار، وتقدَّم إِلَى المحتسب أن يؤدِّب كلَّ من يفتح دُكَّانه يوم الجمعة ويغلقه يوم السبت من البزازين وغيرهم، وقال: هذه مشاركة لليهود فِي حفظ سنتهم (¬1).
وحجَّ فِي وزارته سنة ثمانين، فترك فِي طريقه الزادَ مبذولًا والأدوية، وعمَّ أهلَ الحرمين بصدقاته، وساوى الفقراء فِي إقامة المناسك والتعبُّد، وكانت به وسوسةٌ فِي الطهارة، فكتب إليه ابن عقيل رُقعةً ذكر فيها أخبارًا تتعلَّق بالوسوسة، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صبُّوا على بول الأعرابي ذَنوبًا من ماء (¬2) " و"أمِطْه عنك ولو بإذخرة (¬3) " و"يُغسَل [من] بولِ الجارية، ويُنضَحُ [من] بولِ الغلام (¬4) " ونحو ذلك، فزالت عنه الوسوسة.
ولمَّا عُزِلَ خرج يوم الجمعة إِلَى الجامع ماشيًا، فانثالتْ عليه العامة تصافحه وتدعو له، فقيل للخليفة: إنما قصد الشناعة عليك. فألزمَه بيتَه، وأنكر على مَنْ تَبِعه، فبنى فِي دهليز داره مسجدًا، فكان يؤذِّن ويُصلِّي فيه.
وبعث نظام الملك بإخراجه من بغداد، فأُخرج إِلَى بلده، فأقام مدة، ثم استأذن الحجَّ، فأذِنَ له، فخرج إِلَى مكة.
قال أبو الحسن بن عبد السلام: اجتمعتُ به فِي المدينة، فقبَّل يدي، فأعظمتُ ذلك، فقال لي: قد كنتَ تفعَلُ بي هذا فأحببتُ أن أُكافيك.
وجاور بالمدينة، فلمَّا مَرِضَ مَرَضَ الموت أمر أن يُحمل إِلَى حضرة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فوقف وبكى وقال: يَا رسول الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا لِيُطَاعَ
¬__________
(¬1) فِي المنتظم 17/ 24: فِي حفظ سبتهم.
(¬2) أخرجه بنحوه أبو داود (380) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وهو بمعناه فِي صحيح البخاري (221) ومسلم (284). والذَّنوب: الدلو العظيمة. اللسان (ذنب).
(¬3) أخرجه بنحوه الطحاوي فِي شرح معاني الآثار 1/ 53، والدارقطني فِي السنن (447)، والبيهقي فِي السنن 2/ 418 عن ابن عباس - رضي الله عنه -، مرفوعًا.
وأخرجه البيهقي فِي المعرفة (5015) من طريق آخر عن ابن عباس موقوفًا وقال: هذا هو الصحيح، موقوف، ثم قال عن المرفوع: لا يثبت.
(¬4) أخرجه -بهذا اللفظ- أبو داود (377) من حديث علي - رضي الله عنه -. ويشهد له حديث أبي السمح - رضي الله عنه - عند أبي داود -أَيضًا - (376)، والنَّسائيّ 1/ 158، والحاكم 1/ 166، وما بين حاصرتين من مصادر التخريج.

الصفحة 474