كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 19)

بِالشَّيَاطِينِ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: قُرِنَ كُلُّ شَكْلٍ بِشَكْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، فَيُضَمُّ الْمُبَرِّزُ فِي الطَّاعَةِ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْمُتَوَسِّطُ إِلَى مِثْلِهِ، وَأَهْلُ الْمَعْصِيَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَالتَّزْوِيجُ أَنْ يُقْرَنَ الشَّيْءُ بِمِثْلِهِ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا النُّفُوسُ قُرِنَتْ إِلَى أَشْكَالِهَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقِيلَ: يُضَمُّ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ مَلِكٍ وَسُلْطَانٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢]. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: جُعِلُوا أَزْوَاجًا عَلَى أَشْبَاهِ أَعْمَالِهِمْ لَيْسَ بِتَزْوِيجٍ، أَصْحَابُ الْيَمِينِ زَوْجٌ، وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ زَوْجٌ، وَالسَّابِقُونَ زَوْجٌ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: ٢٢] أَيْ أَشْكَالَهُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قُرِنَتِ الْأَرْوَاحُ بِالْأَجْسَادِ، أَيْ رُدَّتْ إِلَيْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ: الْيَهُودُ بِالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ بِالْمَجُوسِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُلْحَقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالْمُنَافِقُونَ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْمُؤْمِنُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: يُقْرَنُ الْغَاوِي بِمَنْ أَغْوَاهُ مِنْ شَيْطَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، عَلَى جِهَةِ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ، وَيُقْرَنُ الْمُطِيعُ بِمَنْ دَعَاهُ إِلَى الطَّاعَةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: قُرِنَتِ النُّفُوسُ بِأَعْمَالِهَا، فَصَارَتْ لِاخْتِصَاصِهَا بِهِ كَالتَّزْوِيجِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموءودة الْمَقْتُولَةُ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ تُدْفَنُ وَهِيَ حَيَّةٌ، سُمِّيَتْ بذلك لما يطرح عليها من التراب، فيوءودها أَيْ يُثْقِلُهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما [البقرة: ٢٥٥] أَيْ لَا يُثْقِلُهُ، وَقَالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
وموءودة مَقْبُورَةٌ فِي مَفَازَةٍ ... بِآمَتِهَا مَوْسُودَةٌ لَمْ تُمَهَّدِ «١»
وَكَانُوا يَدْفِنُونَ بَنَاتِهِمْ أَحْيَاءً لِخَصْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتِ بِهِ. الثَّانِيَةُ إِمَّا مَخَافَةَ الْحَاجَةِ وَالْإِمْلَاقِ، وَإِمَّا خوفا من السبي والاسترقاق. وقد مضى
---------------
(١). كذا روى البيت ونسب إلى متمم بن نويرة في الأصول ونسبه اللسان وشرح القاموس مادة (عوز) إلى حسان رضى الله عنه وروى فيهما:
وموءودة مقرورة في معاوز ... بآمتها مرموسة لم توسد
والآمة: ما يعلق بسرة المولود إذا سقط من بطن أمه. والمعاوز: خرق يلف بها الصبي.

الصفحة 232