كتاب موسوعة التفسير المأثور (اسم الجزء: 19)

قهرني في الخطاب، وكان أقوى مِنِّي هو وأَعَزّ، فحاز نعجتي إلى نعاجه، وتركني لا شيء لي. فغضب داود، فنظر إلى خصمه الذي لم يتكلم، فقال: لئن كان صدقني ما يقول لأضربنَّ بين عينيك بالفأس. ثم ارعوى داود، فعرف أنه هو الذي يُراد بما صنع في امرأة أوريا، فوقع ساجدًا تائبًا مُنيبًا باكيًا، فسجد أربعين صباحًا صائمًا لا يأكل فيها ولا يشرب، حتى أنبت دمعُه الخَضِر تحت وجهه، وحتى أندب السجودُ في لحم وجهه، فتاب الله عليه، وقَبِل منه. ويزعمون أنّه قال: أي رب، هذا غفرتَ ما جنيتُ في شأن المرأة، فكيف بدم القتيل المظلوم؟ قيل له: يا داود -فيما زعم أهل الكتاب-، أما إنّ ربك لم يظلمه بدمه، ولكنه سيسأله إيّاك فيعطيه، فيضعه عنك. فلما فُرِّج عن داود ما كان فيه رسم خطيئته في كفه اليمنى؛ بطن راحته، فما رفع إلى فيه طعامًا ولا شرابًا قطُّ إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبًا في الناس قطُّ إلا نشر راحته، فاستقبل بها الناسَ ليروا رسم خطيئته في يده (¬١). (ز)

٦٦٥١٥ - عن إسماعيل السُّدِّيّ -من طريق أسباط- قال: إنّ داود قد قسَّم الدهر ثلاثة أيام؛ يومًا يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو فيه لعبادة ربه، ويومًا يخلو فيه بنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنّه كان يجد فيه فضلَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلمّا وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب، قال: يا رب، أرى أنّ الخير كلَّه قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطِني مثلَ ما أعطيتَهم، وافعل بي مثلَ ما فعلتَ بهم. فأوحى الله إليه: إنّ آباءك ابتُلوا ببلايا لم تُبتلى بها؛ ابتُلي إبراهيم بذبْح ابنه، وابتُلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تُبتلى بشيء مِن ذلك. قال: يا ربِّ، ابْتلني بمثل ما ابْتليتَهم به، وأعطِني مثل ما أعطيتَهم. فأوحى الله إليه: إنك مُبتلًى، فاحتَرِس. فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، إذ جاءه الشيطان قد تمثّل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي، فمد يده ليأخذه، فتنحّى، فتبعه، فتباعد، حتى وقع في كُوَّة، فذهب ليأخذه فطار مِن الكُوَّة، فنظر أين يقع؛ فيَبعث في أثره، فأبصر امرأةً تغتسل على سطح لها، فرأى امرأةً مِن أجمل الناس خَلْقًا، فحانت منها التفاتةٌ، فأبصرتْه، فألقتْ شعرها، فاستترت به، فزاده ذلك فيها رغبة، فسأل عنها، فأُخبِر أنّ لها زوجًا، وأنّ زوجها غائب بمسْلَحَة (¬٢) كذا وكذا. فبعث إلى صاحب المسْلَحة
---------------
(¬١) أخرجه ابن جرير ٢٠/ ٧١ - ٧٣.
(¬٢) المسْلَحة: القوم الذين يحفظون الثغور من العدوّ. النهاية (سلح).

الصفحة 52