كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 19)

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم} (النَّحْل: 29) وَفسّر الدخل بقوله: (كل شَيْء لم يَصح فَهُوَ دخل) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَكَذَلِكَ الدغل وَهُوَ الْغِشّ والخيانة.
وَقَالَ ابنْ عبَّاسٍ حَفَدَة مَنْ وَلَدَ الرَّجُلُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفد} (النَّحْل: 27) وَذكر أَن الحفدة من ولد الرجل هم: وَلَده وَولد وَولده، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {بَنِينَ وحفدة} قَالَ: الْوَلَد وَولد الْوَلَد.
السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرِها والرِّزْقُ الحَسَنُ مَا أحَلَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} (النَّحْل: 76) الْآيَة، وَبَين السكر بقوله: (مَا حرم من ثَمَرهَا) أَي: من ثَمَر النخيل وَالْأَعْنَاب، ويروى: من ثَمَرَتهَا، ويروى: مَا حرم الله من ثَمَرهَا وَبَين الرزق الْحسن الْمَذْكُور فِي الْآيَة بقوله: والرزق الْحسن مَا أحل، أَي: الَّذِي جعل حَلَالا، ويروى: مَا أحل الله، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ قوم: السكر الْخمر، والرزق الْحسن الدبس، وَالتَّمْر وَالزَّبِيب، قَالُوا: وَهَذَا قبل تَحْرِيم الْخمر، وَإِلَى هَذَا ذهب ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن وَمُجاهد وَابْن أبي ليلى والكلبي، وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: السكر مَا حرم من ثمرتيهما، والرزق الْحسن مَا أحل من ثمرتيهما، وَقَالَ قَتَادَة: أما السكر فخمور هَذِه الْأَعَاجِم، وَأما الرزق الْحسن فَهُوَ مَا تنتبذون وَمَا تخللون وتأكلون، قَالَ: وَنزلت هَذِه الْآيَة وَمَا حرمت الْخمر يومئذٍ، وَإِنَّمَا نزل تَحْرِيمهَا بعد فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: السكر مَا شربت، والرزق الْحسن مَا أكلت، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْحَبَشَة يسمون الْخمر سكرا.
وَقَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ عَنْ صَدَقَةَ أنْكاثاً هِيَ خَرْقاءُ كانَتْ إِذا أبْرَمَتْ غَزْلَها نَقَضَتْهُ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة، قَالَ الْكرْمَانِي: صَدَقَة هَذَا هُوَ ابْن الْفضل الْمروزِي، ورد عَلَيْهِ بِأَن صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي شيخ البُخَارِيّ يرْوى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَهُنَا يروي سُفْيَان عَن صَدَقَة، وَالدَّلِيل على عدم صِحَة قَوْله: إِن صَدَقَة هَذَا روى عَن السّديّ وَصدقَة بن الْفضل الْمروزِي مَا أدْرك السّديّ وَلَا أَصْحَاب السّديّ، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن ابْن أبي عمر الْعَدنِي والطبري من طَرِيق الْحميدِي، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة عَن صَدَقَة عَن السّديّ قَالَ: كَانَت بِمَكَّة امْرَأَة تسمى خرقاء، فَذكر مثل مَا ذكره البُخَارِيّ، وَالظَّاهِر أَن صَدَقَة هَذَا هُوَ أَبُو الْهُذيْل روى عَن السدى قَوْله: (وروى عَنهُ ابْن عُيَيْنَة) ، كَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) . قَوْله: (أنكاثاً) أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثاً} (النَّحْل: 29) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي: لَا تَكُونُوا فِي نقض الْإِيمَان كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أنحت على غزلها بعد أَن أحكمته وأبرمته فَجَعَلته أنكاثاً، جمع نكث وَهُوَ مَا ينْكث قَتله، وَقَالَ ابْن الْأَثِير، النكث نقض الْعَهْد، وَالِاسْم النكث بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْخَيط الْخلق من صوف أَو شعر أَو وبرسمي، بِهِ لِأَنَّهُ ينْقض ثمَّ يُعَاد فتله، قَوْله: (هِيَ خرقاء) ، الضَّمِير يرجع إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَة الَّتِي تسمى خرقاء، وذكرا (أنكاثاً) يدل عَلَيْهِ فَلَا يكون دَاخِلا فِي الْإِضْمَار قبل الذّكر وَكَانَت إِذا أحكمت غزلها نقضته، فَلذَلِك قيل: خرقاء، أَي: حمقاء، وَفِي: (غرر التِّبْيَان) أَنَّهَا كَانَت تغزل هِيَ وجواريها من الْغَدَاة إِلَى نصف النَّهَار، ثمَّ تأمرهن فينقضن مَا غزلن جَمِيعًا، فَهَذَا كَانَ دأبها، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا كَانَت لَا تكف عَن الْغَزل وَلَا تبقي مَا غزلت، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة، قَالَ: هُوَ مثل ضربه الله تَعَالَى لمن ينْكث عَهده، وَقَالَ مقَاتل فِي تَفْسِيره: هَذِه الْمَرْأَة قرشية اسْمهَا ريطة بنت عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تَمِيم بن مرّة وتلقب جعرانة لحمقها، وَذكر السُّهيْلي: أَنَّهَا بنت سعد بن زيد مَنَاة بن تيم بن مرّة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَانَت اتَّخذت مغزلاً بِقدر ذِرَاع وسنارة مثل الإصبع وفلكة عَظِيمَة على قدرهما تغزل الْغَزل من الصُّوف والوبر وَالشعر وتأمر جواريها بذلك، وَكن يغزلن إِلَى نصف النَّهَار، ثمَّ تأمرهن بِنَقْض جَمِيع ذَلِك، فَهَذَا كَانَ دأبها.
وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ الأُمّةُ مُعَلِّمُ الخَيْرِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله} (النَّحْل: 021) وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود فِي تَفْسِير الْأمة بِأَنَّهُ: معلم الْخَيْر، وَكَذَا رَوَاهُ

الصفحة 17