كتاب إحياء علوم الدين (اسم الجزء: 1)

العموم والشمول أو بطريق الاستتباع فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر
فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب ووجدوا على ذلك معيناً من الطبع فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر فوجد الشيطان مجالاً لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع
اللفظ الثاني العلم وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه حتى أنه لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود رحمه الله لقد مات تسعة أعشار العلم فعرفه بالألف واللام ثم فسره العلم بالله سبحانه وتعالى وقد تصرفوا فيه أيضاً بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها فيقال هو العالم على الحقيقة وهو الفحل في العلم ومن لا يمارس ذلك ولا يشتغل به يعد من جملة الضعفاء ولا يعدونه في زمرة أهل العلم
وهذا أيضاً تصرف بالتخصيص ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته
وقد صار الآن مطلقاً على من لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره وصار ذلك سبباً مهلكاً لخلق كثير من أهل الطلب للعلم
اللفظ الثالث التوحيد وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فلقد كان ذلك معلوماً للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل
ومن ثمراته أيضاً ترك شكاية الخلق وترك الغضب عليهم والرضا والتسليم لحكم الله تعالى
وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه أنطلب لك طبيباً فقال الطبيب أمرضني وقول آخر لما مرض فقيل له ماذا قال لك الطبيب في مرضك فقال قال لي إني فعال لما أريد
وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد شواهد ذلك
والتوحيد جو هو نفيس وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذا يسمى توحيداً مناقضاً للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره
والقشر الثاني أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة
والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده
قال الله تعالى {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} وقال صلى الله عليه وسلم أبغض إله عبد في الأرض

الصفحة 33