كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)
فترافعوا إِلَى عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ: أكتبوه التابوت بلغَة قُرَيْش. قَوْله: (فِي عَرَبِيَّة) أَي: فِي لُغَة عَرَبِيَّة من عَرَبِيَّة الْقُرْآن أَي: من لغته قَوْله: (فَإِن الْقُرْآن أنزل بلسانهم) أَي: بِلِسَان قُرَيْش، وَالْمرَاد مُعظم الْقُرْآن كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله: (فَفَعَلُوا) أَي: فَفعل هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الَّذِي أَمر بِهِ عُثْمَان من كِتَابَة الْقُرْآن بلغَة قُرَيْش، وَقَالَ ابْن عَبَّاس نزل الْقُرْآن بلغَة قُرَيْش ولسان خُزَاعَة لِأَن الدَّار كَانَت وَاحِدَة، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنا أفصحكم لأنى من قُرَيْش ونشأت فِي بني سعد بن مَالك فَلَا يجب لذَلِك أَن يُقَال: الْقُرْآن نزل بلغَة سعد بن بكر، بل لَا يمْنَع أَن يُقَال: بلغَة أفْصح الْعَرَب وَمن دونهَا فِي الفصاحة إِذا كَانَت فصاحتهم غير مُتَفَاوِتَة، وَقد جَاءَت الرِّوَايَات أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ بلغَة قُرَيْش وَغير لغتها، كماأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن الْفضل ابْن أبي خَالِد، سَمِعت أَبَا الْعَالِيَة يَقُول: قَرَأَ الْقُرْآن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَمْسَة رجال، فَاخْتَلَفُوا فِي اللُّغَة فَرضِي قراءتهم كلهَا، وَكَانَ بَنو تَمِيم أعرب الْقَوْم، فَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يقْرَأ بلغَة بني تَمِيم وخزاعة وَأهل لُغَات مُخْتَلفَة قد أقرّ جَمِيعهَا ورضيها.
5894 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا همَّامٌ حَدثنَا عَطاءٌ.
(ح) وَقَالَ مُسَدَّدٌ حَدثنَا يَحْيى عنِ ابنِ جُرَيْحٍ قَالَ: أَخْبرنِي عَطاء قَالَ أخْبرَني صَفْوَانُ بنُ يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ أنَّ يَعْلَى كانَ يَقُولُ: لَيْتَني أرَى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حينَ يُنْزَلُ علَيْهِ الوَحْيُ، فَلمَّا كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجعْرَانَة وعلَيْه ثَوْبٌ قَدْ أظَلَّ عليْهِ ومَعَهُ ناسٌ مِنْ أَصْحابهِ، إذْ جاءَهُ رجُلٌ مُتَضَمِّخُ بِطِيبٍ، فَقَالَ: يَا رسُولَ الله! كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فنظَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساعَةً فَجاءَهُ الوَحْيُ، فأشارَ عُمَرُ إلَى يَعْلَى أنْ تَالَ، فَجاءَ يَعْلى فأدْخَلَ رأسَهُ، فإِذا هُوَ مُحْمَرُّ الوَجْهِ يَغِظُّ كذالِكَ ساعَةً ثُمَّ سُرِّي عَنْهُ، فَقَالَ: أيْنَ الّذِي يَسْألَني عنِ العُمْرةِ آنِفا؟ فالْتُمِسَ الرَّجُل فَجِيءَ بهِ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فاغْسِلْهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وأمّا الجُبَّةُ فانْزِعْها ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ..
قيل: وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب هُوَ التَّنْبِيه على أَن الْقُرْآن وَالسّنة كِلَاهُمَا بِوَحْي وَاحِد ولسان وَاحِد، وَقيل: أَشَارَ البُخَارِيّ بذلك إِلَى أَن قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} (إِبْرَاهِيم: 4) لَا يسْتَلْزم أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل بِلِسَان قُرَيْش فَقَط لكَوْنهم قومه، بل أرسل بِلِسَان جَمِيع الْعَرَب لِأَنَّهُ أرسل إِلَيْهِم كلهم بِدَلِيل أَنه خَاطب الْأَعرَابِي الَّذِي سَأَلَهُ بِمَا يفهمهُ بعد أَن نزل الْوَحْي عَلَيْهِ بِجَوَاب مَسْأَلته، فَدلَّ أَن الْوَحْي كَانَ ينزل عَلَيْهِ بِمَا بفهمه من الْعَرَب، قرشيا كَانَ أَو غير قرشي، وَالْوَحي أَعم من أَن يكون قُرْآنًا يُتْلَى أَو لَا يُتْلَى، وَقيل غير ذَلِك، وَالْكل لَا يشفى العليل وَلَا يروي الغليل، وَلِهَذَا قَالَ بَعضهم: ذكر هَذَا الحَدِيث فِي التَّرْجَمَة الَّتِي قبل هَذِه أظهر وَأبين، فَلَعَلَّ ذَلِك وَقع من بعض النساخ. وَقَالَ آخر مثله وَهُوَ: أَن إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبله أليق، ثمَّ اعتذر عَنهُ، فَقَالَ: فَلَعَلَّهُ قصد التَّنْبِيه على أَن الْوَحْي بِالْقُرْآنِ وَالسّنة كَانَ على صفة وَاحِدَة لِسَان وَاحِد؟ انْتهى. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي الْحَج فِي: بَاب إِذا أحرم جَاهِلا وَعَلِيهِ قَمِيص، وَأخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد بن همام عَن عَطاء،. قَالَ: حَدثنِي صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه الحَدِيث، وَهنا أخرجه عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن عَن همام بن يحيى عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن صَفْوَان بن يعلى إِلَى آخِره. وَأخرجه من طَرِيق آخر بقوله: وَقَالَ مُسَدّد، وَهَذَا بطرِيق المذاكرة مَعَ أَن مُسَددًا شَيْخه وَهُوَ يروي عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج عَن عَطاء عَن صَفْوَان بن يعلى بن أُميَّة إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. والجعرانة بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَقد تكسر وتشدد الرَّاء، وَهِي مَوضِع قريب من مَكَّة، وَهِي فِي الْحل ومقيات للْإِحْرَام. والتضمخ بالمعجمتين التلطخ، وغطيط النَّائِم نخيره، وسري أَي كشف
الصفحة 15
320