كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)

أبي مليكَة عَن عَائِشَة قَالَ: الْعسيلَة هِيَ الْجِمَاع. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) ، والمكي مَجْهُول فِي (التَّلْوِيح) لفظ النِّكَاح فِي جَمِيع الْقُرْآن الْعَظِيم أُرِيد بِهِ العقد لَا الْوَطْء إِلَّا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} (الْبَقَرَة: 032) فَإِنَّهُ أُرِيد بِلَفْظ النِّكَاح العقد وَالْوَطْء جَمِيعًا بِدَلِيل حَدِيث الْعسيلَة، فَإِن الْعسيلَة. فَإِن الْعسيلَة هُنَا الْوَطْء وَفِيه نظر لِأَن لفظ النِّكَاح أسْند إِلَى الْمَرْأَة فَلَو أُرِيد بِهِ الْوَطْء لَكِن الْمَعْنى: حَتَّى تطَأ زوجا غَيره، وَهَذَا فَاسد، لِأَن الْمَرْأَة مَوْطُوءَة لَا واطئة وَالرجل واطىء، بل مَعْنَاهُ أَيْضا: العقد، وَوَجَب الْوَطْء بِحَدِيث الْعسيلَة فَإِنَّهُ خبر مَشْهُور يجوز بِهِ الزِّيَادَة على النَّص، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ إلاَّ لسَعِيد بن الْمسيب فَإِنَّهُ قَالَ: العقد الصَّحِيح كَاف، وَيحصل بِهِ التَّحْلِيل للزَّوْج الأول وَلم يُوَافقهُ على هَذَا أحد إلاَّ طَائِفَة من الْخَوَارِج، وَذكر فِي (كتاب الْقنية) لأبي الرَّجَاء مُخْتَار بن مَحْمُود الزَّاهدِيّ: إِن سعيد بن الْمسيب رَجَعَ عَن مذْهبه هَذَا فَلَو قضى بِهِ قاضٍ لَا ينفذ قَضَاؤُهُ، وَإِن أفتى بِهِ أحذ عزّر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْإِنْزَال شَرط، لَا تحل للْأولِ حَتَّى يَطَأهَا الثَّانِي وطأ فِيهِ إِنْزَال، وَزعم أَن معنى الْعسيلَة الْإِنْزَال، وَخَالفهُ سَائِر الْفُقَهَاء، فَقَالُوا: التقاء الختانين يحلهَا للزَّوْج الأول. وَهُوَ مَا يفْسد الصَّوْم وَالْحج وَيُوجب الْحَد وَالْغسْل ويحصن الزَّوْجَيْنِ ويكمل الصَدَاق. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَو أَتَاهَا الزَّوْج الثَّانِي وَهِي نَائِمَة أَو معنى عَلَيْهَا لَا تشعر أَنَّهَا لَا تحل للزَّوْج حَتَّى يذوقان جَمِيعًا الْعسيلَة، إِذْ غير جَائِز أَن يُسَوِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَينهمَا فِي ذوق الْعسيلَة وَتحل بِأَن يَذُوق أَحدهمَا.
وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي عقد نِكَاح الْمُحَلّل، فَقَالَ مَالك: لَا يحلهَا إلاَّ بِنِكَاح رَغْبَة، فَإِن قصد التَّحْلِيل لم يحلهَا، وَسَوَاء علم الزَّوْجَانِ بذلك أَو لم يعلمَا، وَيفْسخ قبل الدُّخُول وَبعده، وَهُوَ قَول اللَّيْث وسُفْيَان بن سعيد وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ: النِّكَاح جَائِز وَله أَن يُقيم على نِكَاحه أَو لَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَالْحكم، وَقَالَ الْقَاسِم وَسَالم وَعُرْوَة وَالشعْبِيّ: لَا بَأْس أَن يَتَزَوَّجهَا لِيحِلهَا إِذا لم يعلم بذلك الزَّوْجَانِ، وَهُوَ مأجور بذلك. وَهُوَ قَول ربيعَة وَيحيى بن سعيد، وَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو ثَوْر إِلَى أَن نِكَاح الَّذِي يفْسد هُوَ الَّذِي يعْقد عَلَيْهِ فِي نفس عقد النِّكَاح أَنه إِنَّمَا يَتَزَوَّجهَا ليحللها ثمَّ يطلقهَا، وَمن لم يشْتَرط ذَلِك، فَهُوَ عقد صَحِيح، وروى بشر بن الْوَلِيد عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله، وروى أَيْضا عَن مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا نوى الثَّانِي تحليلها للْأولِ لم يحل لَهُ ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وروى الْحسن بن زِيَاد عَن زفر عَن أبي حنيفَة أَنه إِن شَرط عَلَيْهِ فِي نفس العقد أَنه إِنَّمَا يَتَزَوَّجهَا لِيحِلهَا للْأولِ فَإِنَّهُ نِكَاح صَحِيح ويحصنان بِهِ وَيبْطل الشَّرْط، وَله أَن يمْسِكهَا، فَإِن طَلقهَا حلت للْأولِ. وَفِي (الْقنية) إِذا أَتَاهَا الزَّوْج الثَّانِي فِي دبرهَا لَا تحل للْأولِ، وَإِن أولج إِلَى مَحل الْبكارَة حلت للْأولِ، وَالْمَوْت لَا يقوم مقَام الدُّخُول فِي حق التَّحْلِيل، وَكَذَا الْخلْوَة فَافْهَم. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من غير وَجه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي قيس واسْمه عبد الرَّحْمَن بن ثروان الأودي عَن هُذَيْل بن شُرَحْبِيل عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحلِّل والمحلِّل لَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن الْحَارِث عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المحلِّل والمحلَّل لَهُ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر بن عبد الله بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث اللَّيْث بن سعد قَالَ: قَالَ لي أَبُو مُصعب مشرح بن هاعان قَالَ عقبَة بن عَامر: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أخْبركُم بالتيس الْمُسْتَعَار؟ قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله. قَالَ: هُوَ الْمُحَلّل، لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى أَحْمد وَالْبَزَّار وَأَبُو يعلى وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مسانيدهم) من حَدِيث المَقْبُري عَن ابْن عَبَّاس بِنَحْوِهِ سَوَاء، وروى ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة قبيصَة بن جَابر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا أُوتِيَ بِمُحَلل ومحلل لَهُ إلاَّ رجمتها، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن عبد الله بن شريك العامري سَمِعت ابْن عمر يسْأَل عمر: طلق امْرَأَته ثمَّ نَدم، فَأَرَادَ رجل أَن يَتَزَوَّجهَا ليحللها لَهُ، فَقَالَ ابْن عمر: كِلَاهُمَا زانٍ وَلَو مكثا عشْرين سنة، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث والْآثَار كلهَا تدل على كَرَاهِيَة النِّكَاح الْمَشْرُوط بِهِ التَّحْلِيل، وَظَاهره يَقْتَضِي التَّحْرِيم. قلت: لفظ الْمُحَلّل يدل على صِحَة النِّكَاح، لِأَن الْمُحَلّل هُوَ الْمُثبت للْحلّ، فَلَو كَانَ فَاسِدا لما سَمَّاهُ محللاً، وَلَا يدْخل أحد مِنْهُم تَحت اللَّعْنَة إلاَّ ءذا قصد الاستحلال وَحَدِيث على رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ شكّ أَبُو دَاوُد حَيْثُ قَالَ: لَا أرَاهُ رَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعلول بِالْحَارِثِ، وَحَدِيث عقبَة بن عَامر قَالَ عبد الْحق: إِسْنَاده حسن، وَقَالَ

الصفحة 236