كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)

هَذَا بِمَسْأَلَة التَّعْلِيق وَهِي مَا إِذا قَالَ رجل لأجنبية، إِذا تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق، فَإِذا تزَوجهَا يَقع الطَّلَاق عِنْد الْحَنَفِيَّة، خلافًا للشَّافِعِيَّة، فَإِن أشلاءهم على الْحَنَفِيَّة هَهُنَا، ويحتجون فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقول ابْن عَبَّاس، على مَا يَجِيء الْآن، بِمَا رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا طَلَاق لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا بيع فِيمَا لَا يملك وَالْحَنَفِيَّة يَقُولُونَ: هَذَا تَعْلِيق بِالشّرطِ وَهُوَ يَمِين فَلَا يتَوَقَّف صِحَّته على وجود ملك الْمحل كاليمين بِاللَّه، وَعند وجود الشَّرْط يَقع الطَّلَاق وَهُوَ طَلَاق بعد وجود النِّكَاح، فَكيف يُقَال: إِنَّه طَلَاق قبل النِّكَاح؟ وَالطَّلَاق قبل النِّكَاح فِيمَا إِذا قَالَ لأجنبيه: أَنْت طَالِق فَهَذَا كَلَام لَغْو، وَفِي مثل هَذَا يُقَال لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، والْحَدِيث الْمَذْكُور لم يَصح، قَالَه أَحْمد، وَقَالَ أَبُو الْفرج: رُوِيَ بطرِيق مخية بِمرَّة، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أخبارهم لَيْسَ لَهَا أصل فِي الصِّحَّة فَلَا تشتغل بهَا، وَلَئِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على التَّخْيِير.
وقَوْلُ الله تَعَالَى: ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو اْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الْأَحْزَاب: 94) [/ ح.
أَكثر النّسخ هَكَذَا: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَلَيْسَ فِيهِ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، غير أَنه قَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وساقها إِلَى قَوْله: {من عدَّة} وَحذف الْبَاقِي. وَقَالَ: الْآيَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَعَلِيهِ أَكثر النّسخ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ ابْن التِّين: احتجاج البُخَارِيّ بِهَذِهِ الْآيَة على عدم الْوُقُوع لَا دلَالَة فِيهِ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: لَيْسَ فِيهَا دَلِيل لِأَنَّهَا إِخْبَار عَن صُورَة وَقع فِيهِ الطَّلَاق بعد النِّكَاح، وَلَا حصر هُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي السِّيَاق مَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: احْتج بِالْآيَةِ قبل البُخَارِيّ ترجمان الْقُرْآن عبد الله بن عَبَّاس وَمرَاده هُوَ قَوْله: جعل الله الطَّلَاق بعد النِّكَاح. قلت: هَذَا هروب من هَذَا الْقَائِل لعَجزه عَن الْجَواب عَمَّا قَالَه ابْن التِّين وَابْن الْمُنِير، وانباض عرق العصبية لمذهبه، ولترويج كَلَام البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، ونتكلم فِي هَذَا الْآن بِمَا يَقْتَضِيهِ طَرِيق الصَّوَاب من غير ميل عَن الْحق فِي الْجَواب.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ جَعَلَ الله الطَّلاَقَ بعْدَ النِّكاحِ
هَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن نمير عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ: (لَا طَلَاق إلاَّ بعد نكاج وَلَا عتق إلاّ بعد ملك) انْتهى، هَذَا لَا خلاف فِيهِ أَن الله جعل الطَّلَاق بعد النِّكَاح، وَالْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِهِ، فَلَا يجوز للشَّافِعِيَّة أَن يحتجوا بِهِ عَلَيْهِم فِي مَسْأَلَة التَّعْلِيق، فَإِن تَعْلِيق الطَّلَاق غير الطَّلَاق، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاق فِي الْحَال، فَلَا يشْتَرط لصِحَّته قيام الْمحل. وَحكى أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن الزُّهْرِيّ فِي قَوْله: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح، قَالَ: هُوَ الرجل يُقَال لَهُ: تزوج فُلَانَة، فَيَقُول: هِيَ طَالِق، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، فَأَما من قَالَ: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، فَإِنَّمَا تطلق حِين يَتَزَوَّجهَا، وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ فِي رجل قَالَ: كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق، وكل أمة تشتريها فَهِيَ حرَّة، كَمَا قَالَ: فَقَالَ معمر: أَو لَيْسَ قد جَاءَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق إِلَّا بعد ملك؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِك أَن يَقُول الرجل: امْرَأَة فلَان طَالِق وَعبد فلَان حر، وَاحْتج بَعضهم أَيْضا بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الرجل يَقُول: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق قَالَ لَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا الطَّلَاق لما ملك. قَالُوا: فَابْن مَسْعُود كَانَ يَقُول: إِذا وَقت وقتا فَهُوَ كَمَا قَالَ! قَالَ: رحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن لَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ الله تَعَالَى: {إِذا طلّقْتُم الْمُؤْمِنَات ثمَّ نكحتموهن} انْتهى. قَالُوا: الْآيَة دلّت على أَنه إِذا وجد النِّكَاح ثمَّ طلق قبل الْمَسِيس فَلَا عدَّة، وَلم تتعرض الْآيَة لصورة النزاع أصلا، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حبس الأَصْل وسبل الثَّمَرَة، فَدلَّ على جَوَاز الْمَعْقُود فِيمَا لم يملكهُ وَقت العقد، بل فِيمَا يسْتَأْنف، وَأَجْمعُوا على أَن لَو أوصى بِثلث مَاله أَنه يعْتَبر وَقت الْمَوْت لَا وَقت الْوَصِيَّة، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن} (التَّوْبَة: 57) فَهَذَا نَظِير: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، وَفِي (الاستذكار) لم يخْتَلف عَن مَالك أَنه إِن عمم لم يلْزمه. وَإِن سمى امْرَأَة أَو أَرضًا أَو قَبيلَة لزمَه، وَبِه قَالَ ابْن أبي ليلى وَالْحسن

الصفحة 246