كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)

القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَوْجُود بِالْقَلْبِ الْمُوَافق للْعلم، مَرْدُود عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَه تعصبا لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع الطَّلَاق بالعزم وَإِن لم يتَلَفَّظ، وَلَيْسَ لأحد خلاف أَنه إِذا نوى الطَّلَاق بِقَلْبِه وَلم يتَلَفَّظ بِهِ أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخطابِيّ عَن الزُّهْرِيّ وَمَالك: أَنه يَقع بالعزم، وَحَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ، وَهَذَا فِي غَايَة الْبعد ونقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار وَغَيره، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على أَنه لَو عزم على الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يتَلَفَّظ بِهِ، وَلَو حدث نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قَاذِفا، وَلَو حدث نَفسه فِي الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة. وَقد حرم الله الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقد قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهز جيشي وَأَنا فِي الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ: إِن طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة أَنه إِذا كتب بِالطَّلَاق وَقع لِأَن الْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط فِيهِ مَالك الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي غَايَة إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا، وَفِي (الْمُحِيط) : إِذا كتاب طَلَاق امْرَأَته فِي كتاب أَو لوح أَو على حَائِض أَو أَرض وَكَانَ مستبينا وَنوى بِهِ الطَّلَاق يَقع، وَإِن لم يكن مستبينا أَو كتب فِي الْهَوَاء وَالْمَاء لَا يَقع، وَإِن نوى.
وَقال قَتَادَةُ: إِذا طَلَّقَ فِي نفْسِهِ فلَيْسَ بِشَيْءٍ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ قبل الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهنا أنسب كَمَا لَا يخفى على الفطن، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قتاد وَالْحسن قَالَا: من طلق سرا فِي نَفسه فَلَيْسَ طَلَاقه ذَلِك بِشَيْء.

0725 - حدّثنا أصْبَغُ أخْبرنا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً مِن أسْلَم أتَى النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أعْرَضَ، فَشَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ بِك جُنُونٌ؟ هَلْ أحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ بالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحَجَارَةُ جَمَزَ حتَّى أُدْرِكَ بالحَرَّةِ فَقُتِلَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله فِي التَّرْجَمَة: وَالْمَجْنُون، فَإِن الرجل الَّذِي قتل لَو كَانَ مَجْنُونا لم يعْمل بِإِقْرَارِهِ.
وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج بِالْجِيم أَبُو عبد الله الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَفِي الرَّجْم عَن ابْن السَّرْح وَغَيره.
قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ مَاعِز بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وبالزاي ابْن مَالك الْأَسْلَمِيّ، مَعْدُود فِي الْمَدَنِيين ونسبته إِلَى أسلم قَبيلَة. قَوْله: (فَتنحّى) قَالَ الْخطابِيّ: تفعل من نحى إِذا قصد الْجِهَة، أَي: الَّتِي إِلَيْهَا وَجهه ونحى نَحوه، وَيُقَال: قصد شقَّه الَّذِي أعرض إِلَيْهِ. قَوْله: (فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) المُرَاد بهَا أَربع أقارير.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: جَاءَ مَاعِز بن مَالك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن الْأَبْعَد زنى، فَقَالَ لَهُ: ويل لَك، مَا يدْريك من الزِّنَا. فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة فَقَالَ مثل ذَلِك، فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ ذَلِك فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج. ثمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَة، فَقَالَ مثل ذَلِك، قَالَ: أدخلت وأخرجت؟ قَالَ: نعم، فَأمر بِهِ أَن يرْجم. وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأحمد من حَدِيث هِشَام بن سعد: أَخْبرنِي يزِيد بن نعيم بن هزال عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ مَاعِز بن مَالك فِي حجر أبي فَأصَاب جَارِيَة من الْحَيّ. فَقَالَ لَهُ أبي: ائْتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا صنعت لَعَلَّه يسْتَغْفر لَك، وَإِنَّمَا يُرِيد بذلك رَجَاء أَن يكون لَهُ مخرج، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي زَنَيْت فأقم عَليّ كتاب الله عز وَجل، فَأَعْرض عَنهُ إِلَى أَن أَتَاهُ الرَّابِعَة، قَالَ: هَل باشرتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: هَل جامعتها. قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ فرجم. فَوجدَ مس الْحِجَارَة فَخرج

الصفحة 256