كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)

يشْتَد فَلَقِيَهُ عبد بن أنيس فَنزع لَهُ بوظيف بعير فَقتله، وَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّه يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ. وَزَاد فِيهِ أَحْمد: قَالَ هِشَام فَحَدثني يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ حِين رَآهُ يَا هزال {لَو كنت سترته لَكَانَ خيرا لَك مِمَّا صنعت بِهِ. قَالَ فِي (التَّنْقِيح) إِسْنَاده صَالح وَهِشَام بن سعد روى لَهُ مُسلم وَكَذَلِكَ روى ليزِيد بن نعيم. قلت: يزِيد بن نعيم بن هزال وَيزِيد من رجال مُسلم كَمَا ذكرنَا ونعيم مُخْتَلف فِي صحبته وهزال هُوَ ابْن دياب بن يزِيد بن كُلَيْب الْأَسْلَمِيّ روى عَنهُ ابْنه وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر حَدِيثا وَاحِدًا، قَالَ أَبُو عمر مَا أَظن لَهُ غَيره، وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا هزال لَو سترته بردائك.
قَوْله: (هَل بك جُنُون) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليتَحَقَّق حَاله، فَإِن الْغَالِب أَن الْإِنْسَان لَا يصر على مَا يَقْتَضِي قَتله مَعَ أَن لَهُ طَرِيقا إِلَى سُقُوط الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: (هَل أحصنت؟) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: هَل تزوجت قطّ؟ قَوْله: (بالمصلى) وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهِ الأعياد وعَلى الْمَوْتَى، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْأَكْثَر على أَنه مصلى الْجَنَائِز وَهُوَ بَقِيع الفرقد. قَوْله: (فَلَمَّا أذلقته الْحِجَارَة) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وباللام وَالْقَاف أَي أقلقته يَعْنِي: بلغ مِنْهُ الْجهد حَتَّى قلق، وَيُقَال: أَي أَصَابَته بحدها فعقرته، وذلق كل شَيْء حَده. قَوْله: (جمز) بِالْجِيم وَالْمِيم والزاء أَي: أسْرع هَارِبا من الْقَتْل، يُقَال: جمز يجمز جمزا من بَاب ضرب يضْرب. قَوْله: (حَتَّى أدْرك) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي أَرض ذَات حِجَارَة سود خَارج الْمَدِينَة. قَوْله: (فَقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام:
الأول: فِيهِ فَضِيلَة مَاعِز حَيْثُ لم يرجع عَن إِقْرَاره بِالزِّنَا حَتَّى رجم، وَقَالَ فِي حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه الْآن لفي أَنهَار الْجنَّة ينغمس فِيهَا، وَفِي حَدِيث أخرجه أَحْمد عَن أبي ذَر فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره قَالَ: يَا أَبَا ذَر} ألم تَرَ إِلَى صَاحبكُم؟ غفر لَهُ وَأدْخل الْجنَّة.
الثَّانِي: أَنه لَا يجب حد الزَّانِي على الْمُعْتَرف بِالزِّنَا حَتَّى يقر بِهِ على نَفسه أَربع مَرَّات، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحكم بن عتيبة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد فِي الْأَصَح وَإِسْحَاق، وَاحْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقوله: (فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) وَقَالَ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَعُثْمَان البتي وَالْحسن بن حَيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر: إِذا أقرّ الزَّانِي بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة يجب عَلَيْهِ الْحَد، وَلَا يحْتَاج إِلَى مرَّتَيْنِ أَو أَكثر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الغامدية، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأنيس: أغد يَا أنيس فارجمها، وَكَانَت اعْترفت مرّة وَاحِدَة، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون أنيس قد كَانَ على الِاعْتِرَاف الَّذِي يُوجب الْحَد على الْمُعْتَرف مَا هُوَ بِمَا علمهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَاعِز وَغَيره، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّاوِي قد يختصر الحَدِيث فَلَا يلْزم من عدم الذّكر عدم الْوُقُوع، على أَنه قد ورد فِي بعض طرق حَدِيث الغامدية أَنه ردهَا أَربع مَرَّات، أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) فَإِن قلت: الْإِقْرَار حجَّة فِي الشَّرْع لرجحان جَانب الصدْق على جَانب الْكَذِب، وَهَذَا الْمَعْنى عِنْد التّكْرَار والتوحيد سَوَاء. قلت: هَذَا هُوَ الْقيَاس، وَلَكنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنه رد ماعزا أَربع مَرَّات. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون رده أَربع مَرَّات لكَونه اتهمه بِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا الزِّنَا؟ قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه: أَن مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي قد ظلمت نَفسِي وزنيت، وَإِنِّي أُرِيد أَن تطهرني فَرده، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي قد زَنَيْت، فَرده الثَّانِيَة، فَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قومه فَقَالَ: أتعلمون بعقله بَأْسا تنكرون مِنْهُ شَيْئا؟ فَقَالُوا: مَا تعلمه إلاَّ وَفِي الْعقل من صالحينا فِيمَا نرى، فَأَتَاهُ الثَّالِثَة فَأرْسل إِلَيْهِم أَيْضا فَسَأَلَهُمْ عَنهُ فأخبروه أَنه لَا بَأْس بِهِ وَلَا بعقله، فَلَمَّا كَانَت الرَّابِعَة حفر لَهُ حُفْرَة ... الحَدِيث، فقد غفل الْكرْمَانِي عَن هَذَا الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: الْإِقْرَار بالأربع لم يكن على سَبِيل الْوُجُوب بِدَلِيل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت فارجمها، وَلم يشْتَرط عددا، وَقد مر الْجَواب الْآن عَن حَدِيث أنيس وَكَيف لَا يشْتَرط الْعدَد، وَقد ورد فِي حَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: إِنَّك قد قلتهَا أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لَهُ عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّك شهِدت على نَفسك أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لِابْنِ أبي شيبَة: أَلَيْسَ أَنَّك قلتهَا أَربع مَرَّات؟ فرتب الرَّجْم على الْأَرْبَع، وإلاَّ فَمن الْمَعْلُوم أَنه قَالَهَا أَربع مَرَّات.

الصفحة 257