كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 20)

الثَّالِث: أَن الْإِحْصَان شَرط فِي الرَّجْم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَل أحصنت) والإحصان على نَوْعَيْنِ: إِحْصَان الرَّجْم وإحصان الْقَذْف. أما إِحْصَان الرَّجْم فَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن اجْتِمَاع صِفَات اعتبرها لوُجُوب الرَّجْم وَهِي سَبْعَة: الْعقل وَالْبُلُوغ، وَالْحريَّة، والاسلام، وَالنِّكَاح الصَّحِيح، وَالدُّخُول فِي النِّكَاح الصَّحِيح. وَأما إِحْصَان الْقَذْف فخمسة: الْعقل، والبلوع وَالْحريَّة، وَالْإِسْلَام، والعفة عَن الزِّنَا. وَشرط أَبُو حنيفَة الْإِسْلَام فِي الْإِحْصَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. رَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي (مُسْنده) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَيْسَ الْإِسْلَام بِشَرْط فِي الْإِحْصَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الزَّانِي الْمُحصن.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجمع فِي مَاعِز بَين الْجلد وَالرَّجم، وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة: يجلد الْمُحصن ثمَّ يرْجم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: عَليّ بن أبي طَالب وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهم، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر: أَن رجلا زنى فَأمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجلد، ثمَّ أخبر أَنه كَانَ قد أحصن فَأمر بِهِ فرجم، رَوَاهُ أَب دَاوُد والطَّحَاوِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي الْأَصَح: حد الْمُحصن الرَّجْم فَقَط لحَدِيث مَاعِز. فَإِن قلت: روى عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر يجلد وينفى، وَالثَّيِّب يجلد ويرجم، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره. قلت: حَدِيث عبَادَة مَنْسُوخ بِحَدِيث العسيف، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: فَإِن اعْترفت فارجمها ... الحَدِيث، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة مُتَأَخِّرَة الْإِسْلَام وَلم يتَعَرَّض فِيهِ للجلد، وَاسْتدلَّ الأصوليون أَيْضا على تَخْصِيص الْكتاب بِالسنةِ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم ماعزا وَلم يجلده، وَآيَة الْجلد شَامِلَة للمحصن وَغَيره.
الْخَامِس: فِيهِ: الاستفسار عَن حَال الَّذِي اعْترف فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: (هَل أحصنت؟) وَجَاء فِي حَدِيثه أَيْضا: هَل جامعتها وَهل باشرتها، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَأقبل فِي الْخَامِسَة، فَقَالَ: أنكحتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: كَمَا يغيب المرود فِي المكحلة والرشاء فِي الْبِئْر؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَهَل تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نعم، أتيت مِنْهَا حَرَامًا مثل مَا أَتَى الرجل من امْرَأَته حَلَالا ... الحَدِيث.
وَفِي حَدِيث مَاعِز يُسْتَفَاد أَحْكَام أُخْرَى غير مَا ذكرنَا هُنَا.
مِنْهَا: أَن السّتْر فِيهِ مَنْدُوب لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهزال لما أرسل ماعزا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: لَو سترته بثوبك لَكَانَ خير لَك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه، وروى مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر الْحَد إِلَى أَن يتم الْإِقْرَار أَربع مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن على الإِمَام أَن يرادد الْمقر بِالزِّنَا بقوله: لَعَلَّك قبلت أَو مسست، وَفِي لفظ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت. قَالَ: لَا. قَالَ: أفنلتها؟ قَالَ: نعم.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم يصلى عَلَيْهِ، كَمَا روى البُخَارِيّ على مَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْمُحَاربين: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، فَذكر قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره، ثمَّ أَمر بِهِ فرجم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرا، وَصلى عَلَيْهِ. فَإِن قلت: قيل للْبُخَارِيّ قَوْله: وَصلى عَلَيْهِ، قَالَه غير معمر، قَالَ: لَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل وَالْحسن بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْحسن بن عَليّ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَمُحَمّد بن رَافع ونوح بن حبيب، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَقَالُوا كلهم فِيهِ: وَلم يصل عَلَيْهِ. قلت: أُجِيب بِأَن معنى قَوْله: فصلى عَلَيْهِ، دَعَا لَهُ، وَبِهَذَا تتفق الْأَخْبَار، وَلَكِن يُعَكر على هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة الزبيرِي عَن ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أبي أَيُّوب عَن أبي أُمَامَة بن سهل الْأنْصَارِيّ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر يَوْم رجم مَاعِز، فطول فِي الْأَوليين حَتَّى كَاد النَّاس يعجزون من طول الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف وَمر بِهِ فرجم فَلم يصل حَتَّى رَمَاه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلحي بعير فَأصَاب رَأسه فَقتله، وَصلى عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر: حَدثنِي ثِقَة من أهل الْبَصْرَة عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على مَاعِز بن مَالك وَلم ينْه عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ. قلت: ضعفه ابْن الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) بِأَن فِيهِ مَجَاهِيل. فَإِن قلت:

الصفحة 258