كتاب يثرب قبل الإسلام

101 ...
قال: لا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي. قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: (الآن علمت أن لي خليفة) وأعجبه شدة نصبه في عبادتها (1).
وإننا نستطيع بعد ذلك أن نعلل كيف استسلمت هذه العقليات للخرافات والأوهام؟ إن العقول التي دانت لحجارة نحتتها بأيديها، وخضعت لأصنام صنعتها بأنفسها، واعتقدت أن هذه الأوثان تضر وتنفع، وتستطيع أن تنتقم لنفسها، وتثأر لحرماتها، هذه العقول التي اتصفت بذلك، لا نستبعد أن تخاف من الغول وهو محض وهم، وأن تحسب للعنقاء ألف حساب وهي خيال صرف.
كما أننا لا نستغرب بعد ذلك أن يحبس القوم أعز إبلهم لأصنامهم، لأنها - في اعقادهم - هي التي تجلب لهم الخير، وتدفع عنهم الشر، وتبارك لهم في التجارة، وتنصرهم وقت الغارة، وتمطرهم إذا أجدبوا، وتردهم إلى ديارهم سالمين إذا أغربوا.
لهذا لم عجباً أن يتحفوها بكرائم أموالهم، وبخصوها بأنفس إبلهم، فجعلوا لها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وبالغوا في تعظيمها، وتصدوا للدفاع عنها، وتعصبوا أشد التعصب في عبادتها.
وكان لهذا التعصب لها والمبالغة في تعظيمها أثر سيء في نفوسهم، حيث دفعهم التعصب إلى الكفر بسواها فعاندوا الحق، واستكبروا على قبول الهدى، وحالت المبالغة في تعظيمها بينهم وبين الإعتراف بوجود إله غيرها، فأنكروا وجود الإله المستحق للعبادة وحده -سبحانه- وجعلوها شركاء له- جل شأنه - والنتيجة الحتمية لذلك هذا الموقف العنيد الذي أبدوه عندما جاءهم الهدى، وهذا الإصرار العنيف الذي واجهوا به دعوة الحق حينما جاءهم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على السذاجة التي اتصف بها القوم، والسطحية التي كانت السمة المميزة لهذا المجتمع، ...
__________
(1) الأصنام، ص 23.

الصفحة 101