كتاب يثرب قبل الإسلام

102 ...
والعجيب الذي يدهش الناظر في صفات الأفراد في هذا المجتمع أنه يجد في مطلع هذه الصفات الذكاء الذي روي منه الكثير في الكتب التي تعرضت لحياة العرب في الجاهلية والإسلام على حد سواء، ولكن كيف لم يهد هذا الذكاء أولئك الأذكياء إلى الحقيقة الماثلة أمامهم، إلى حقيقة هذه الأوثان التي صنعوها بأيديهم، ثم اتخذوها آلهة، يضرعون إليها في شدتهم، ويهدون لها في رخائهم؟
لا شك أن هذا أمر يحير العقول، ولا يمكن تعليله إلا بالإلف والعادة، فقد ورث القوم عن آبائهم عبادة هذه الأصنام، واعتادوا تعظيمها منذ طفولتهم، فألفوا ذلك، ونشأوا عليه، ويصعب على النفس أن تألف شيئاً وتعتاده ثم تتركه بسهولة، وهذا أمر مشاهد ملموس فإننا نرى كثيراً من الناس يتعلقون بعادات تخرجهم عن السمت الذي يليق بهم، كمن يدخل إصبعه في أنفه في مجلس الناس وعلى الطعام، ومن يقضم أظافره بفمه وهو يتبادل الحديث مع الناس، إنها ولا شك عادات سيئة، وهم يعلمون ذلك، ويودون لو تخلصوا منها، ومع ذلك فإنهم يجدون شدة ومعاناة في التخلص من هذه العادات، فكيف ينشأ وفوق رأسه صنم وشب فوجد آباءه يعبدونه، وترعرع فرأى في ذهابه وإيابه قومه يقدسونه، ويتقربون إليه؟.
أمر طبيعي إذن أن يعمي الإلف والعادة أعين الناس فلا يرون الحق، وأن يصما آذانهم فلا يسمعون النصح وأن يعطلا ذكاءهم فيقفوا بلهاء أمام أوضح الأمور، وأبسط المسائل حتى إذا اتضحت الحجة، وظهرت جلية الأمر تشبتثت نفوسهم بما ألفوه، وتعلقت قلوبهم بما اعتادوه، وقالوا قولة الأطفال البسطاء، يحكيها عنهم القرآن الكريم (قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) (1).
هكذا قالوا لإبراهيم - عليه السلام - وهكذا قالوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون) (2) وهذا هو ...
__________
(1) الشعراء: 74.
(2) الزخرف: 22.

الصفحة 102