كتاب يثرب قبل الإسلام

104 ...
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور
ولا هبلاً أزور وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير (1)
فماذا في يثرب؟
لم تكن يثرب بمعزل عن الجزيرة ولم يكن أهلها على خلاف مع القوم، بل كانوا على دين إخوانهم، يعطمون الأوثان، ويقدسون ما يقدسه سائر العرب في أنحاء الجزيرة، إلا أنهم كانوا أكثر تعظيماً (لمناة) عن غيره من الأصنام الأخرى.
ورغم وجود اليهود في يثرب، ورغم تاثيرهم الكبير في الحياة فيها، إلا أنالأوس والخزرج أو عامتهم لم يتخذوا اليهودية ديناً لهم، ولم يستبدلوها بالوثنية، بل ظلوا على عبادة هذه الأحجار، يستنصرون بها على أعدائهم، ويستمطرون بها إذا أجدبوا، ويذبحون عندها قرابينهم، ويحلقون بين أيديها رؤوسهم إذا انصرفوا من حجهم.
ورغم قربهم من النصرانية التي كانت تقطن حدود الجزيرة الشمالية، وتسيطر على بلاد الشام، ورغم اختلاط أهل يثرب بهم في رحلاتهم المتكررة إلى تلك الجهات، فإن النصرانية لم تجد لها طريقاً إلى قلوب أهل يثرب، فلم نسمع عن رجل منهم تنصر، وترك عبادة الأوثان، سوى شخصين عرفا بالنصارنية هما أبو قيس عرمة بن أنس، وأبو عامر عهد عمرو بن صيفي.
إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على عميق ما تركته الوثنية في قلوب القوم، وعلى هيمنة تلك الديانة على نفوسهم، إذ لا شك أن اليهودية على ما فيها من تحريف وتبديل والنصرانية على ما اختلط بها من تثليث وتجسيم، خير من الوثنية التي لا يجد لها العقل السوي مساغاً لتستقر هذا الإستقرار في أعماق هؤلاء المفتونين بها.
__________
(1) الأصنام: 22.

الصفحة 104