154 ...
وظلت الحرب باردة بين الطرفين مدة غير قصيرة، حتى أزكاها أحد حلفاء الخزرج بتفضيل الخزرج على الأوس، وتفضيل مالك بن العجلان بالذات على الأوس والخزرج جميعاً، فأسرها أحد الأوسيين في نفسه، وقتل ذلك الحلف وأصر مالك على أن يأخذ في حليفه دية الصريح لا دية الحلف، بقصد بذلك تأكيد سيادته على أهل يثرب جميعاً.
لم تقبل الأوس ذلك الإصرار من مالك، واندلعت الحرب بين الفريقين، وهذه الحرب هي المعروفة بحرب (سمير) وهي أول الحروب بين الأوس والخزرج، ولم تستمر الحرب طويلاص فقد تحاكم الطرفان فقضي لمالك بلدية الصريح على أن تعود الأمور إلى طبيعتها وتكون الدية بعد ذلك على السنن المعروفة بينهم فرضوا بذلك، وأخذوا الدية (1).
ستر هذا الصلح ما ظهر من العداوة من الطرفين، ولكن الصدور لم تزل تنطوي على حقد دفين يكنه كل طرق للآخر، وهو يتحين الفرصة ليظهر مكنون سره وخفايا صدره، وقد أتيحت لهم الفرص مرات ومرات، وترجموا عما في نفوسهم بحروب دامت بينهم طويلاً.
والذي يلاحظ في هذه الحروب ان التفوق كان في جلها للخزرج أصحاب النفوذ السياسي على الأوس أصحاب النفوذ الاقتصادي وكلما كان الأوس يعتزون بتفوقهم الاقتصادي، كلما كان الخزرج يحاولون تحظيم ذلك النفوذ بتدمير المصادر التي تجعل الأوس يتفوقون عليهم، ولذلك كانوا في جميع غاراتهم يقطعون النخيل، ويحرقون المحاصيل، ويهدمون الدور (2).
وكان النفوذ الاقتصادي للأوس ينهار تحت وطأة الحرب، والإعتداء على الزرع والضرع، فهبوا لينقذوا مصدر عزهم محاولين التحالف مع قريظة (3) ولكن المحاولة قد فشلت، حين هدد الخزرج بني قريظة بالحرب ...
__________
(1) الكامل (1/ 402 - 403).
(2) الكامل (1/ 418).
(3) مكة والمدينة، ص 340.