كتاب يثرب قبل الإسلام
91 ...
عليهم، فإن تعظيمهم للكعبة، وصبابتهم بمكة، حدت بهم إلى أن يحملوا معهم في أسفارهم شيئاً من آثارها - ولم يكن هناك إلا الحجارة - فكانوا كلما حنت قلوبهم إلى مكة، نصبوا الحجارة ليروا من آثارها ما يخفف من حنينهم، وكلما اشتاقوا إلى الكعبة، طافوا حولها لعل هذا الطواف يهدئ من شوقهم. فهم بذلك يتمثلون مكة العزيزة على نفوسهم في تلك الحجارة ويتخيلون الكعبة الحبيبة إلى قلوبهم من خلالها، فهاموا بالحجارة، واعتزوا بها وعظموها تعظيم مكة، وأحبوها حبهم للكعبة، فتولدت في نفوسهم -نتيجة لهذا التعظيم وتلك المحبة - عبادتها، وهل العبادة إلا الحب والتعظيم؟ وفي الموضوع يطالعنا حديث البخاري عن ابي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (رأيت عمرو بن عامر بن لحى الخزاعي، يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب) (1).
ويروي مسلم الحديث بزيادة: (وبحر البحيرة، وغير دين إسماعيل).
وأما الطبري فيروي الحديث بصورة أتم، بسنده إلى أبي هريرة حيث يقول: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم، رأيت عمرو منك به، ولا به منك، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، وحمى الحامي" (2).
ويذكر ابن إسحاق سبب عبادة عمرو بن لحى للأصنام فيقول: (إن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، ...
__________
(1) الفتح (6/ 547).
(2) تفسير الطبري (11/ 118).
الصفحة 91
224