كتاب المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى

فاصلة ولكنهم آثروا السلامة، وأحبوا العافية، ودخلوا في دين الله، ولم
يستطع بعد ذلك أحد أن يطوف بالبيت عاريا، ولم يجرؤ مشرك أن يبقى في
مكة، أو حتى يأتي ليحج على طريقته مع الحجاح.
وقد كان لهذا البيان رغم طابعه الديني أثر اجتماعي عميق، ومغزى
سياسي دقيق ظهر في توحيد صفوف الأمة، وتطهيرها ممن يشك في سلوكهم
نحوها واخلاصهم لها، وأصبح سكان شبه الجزيرة جميعهم ينضوون تحت
لواء دولة واحدة، وتحكمهم حكومة واحدة، ويقضي بينهم على أساس
دستوري واحد، وانتهت بذلك العصبية القبلية، وزال ما كان في نفوس الناس
من خلافات فئتت المجتمع، وأضعفت وحدته الوطنية.
وظهرت الأمة العربية لأول مرة في تاريخها موحدة الغاية، محددة
الهدف واضحة المنهج، حتى كان لهذا المظهر القوي أتره في سياسة الدول
الواقعة على حدود شبه الجزيرة حيال هذه الدولة الفتية، فلم تجرؤ دولة من
الدولتين العظميين يومئذ على مهاجمة حدود الدولة الإسلامية التي بنت
سياستها على فرضية الجهاد في سبيل الله لمن يحول بين الناس وبين الدخول
في الإسلام، ولتطهير الأرض من الطغاة الذين يشكلون عقبة في طريق نشر
الإسلام.
ولم يزل الرعب يمسك كلتا الدولتين عن المغامرات العسكرية
والسياسية مع الدولة الإسلامية، لأنهما رأتا فيها من القوة الرادعة التي تستطيع
الرد على المغامرين وإسكاتهم ما يجعلهم يفضلون السلام على الحرب،
والأمان على الخوف، وظل الأمر كذلك حتى ذهبت إليهم جيوش المسلمين
تدعوهم إلى الله، فلما أبوا اقتحمت عليهم بلادهم، وأرغمتهم على الخفوع
لسلطانهم.
وهكذا ترى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ اللحظات الأولى للهجرة حدد
سياسته الداخلية والخارجية، فاًعلن قيام الدولة، ووضح موقفها من السكان
غير المسلمين، فهادنهم بمعاهدة بينت ما لهم وما عليهم فلما نقضوها
أخرجهم وطردهم، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وأقام
135

الصفحة 135