كتاب المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى

الناس، وألزمتهم بالتعاون فيما بينهم ليعيشوا متكافلين، لا يضام أحدهم، ولا
يحتاج إلى العون من غير المسلمين.
وفي ذلك براعة استهلال، تدل على عقل فذ، ودراية كاملة بحال
العدو، حيث وضعه أمام أمة متحدة متكافلة، يسعى بذماتهم أدناهم، وهم يد
على من سواهم وبذلك يمطع عليه أمل الطمع في هذه الأمة، أو التفكير في
النيل منها.
والفقرة الثانية وضحت حقوق اليهود الداخلية في المعاهدة، فأوجبت
لهم النصر والأسوة من غير ظلم ولا تكتل ضدهم، وأعلنت أنه لا يجوز لهم
مسالمة بعض المسلمين دون بعض، لأنهم أمة واحدة، وأنهم يتحملون
بالتساوي ما ينزل بهم وقت الحرب في سبيل الله، وكذلك بينت أنه لا يجوز
لهم أن يحموا أحدا من قريش أو يحفظوا له ماله، ولا يجوز لهم أن يمنعوا
أحدا من المسلمين أو رجلا من قريش بسوء أو عمد إلى ماله ليأخذه لأن
قريشا في حالة حرب المسلمين.
وبذلك تكون المعاهدة قد قطعت عليهم الأمل في تفريق جماعة
المسلمين، وحالت بينهم وبين موالاة قريش، فعزلت بين القوتين الكبيرتين
اللتين يمكن لو اتفقتا أن تقلقا وضع الدولة الناشئة.
والقسم الباقي من المعاهدة تناول التنظيم الداخلي للأمة بالنسبة
للأفراد، وتحمل التبعات، وإقرار شخصية الأمة فأقر حرية الأديان (ليهود
دينهم وللمسلمين دينهم) وبئن أن الأمة هي المرجع الوحيد للمحافظة على
الحقوق يرجع إليها الناس عندما يختلفون في أي أمر من الأمور، وبهذا أظهر
شخصية الأمة، وأبرزها حقيقة ماثلة، تفصل في الخصومات، وتحمي
الحقوق، وترد الظالمين وتقتص للمظلومين.
وهكذا أخضعت الأفراد لسلطه الأمة، وقضت على النزعات الشخصية
وأبطلت الأخذ بالثأر، وضمنت لجميع الأفراد المنتمين إليها حياة كريمة في
ظل دولة قوية عادلة، فوسعت بذلك داترة الوجود المحدودة التي كان يعيش
39

الصفحة 39