كله بالعداء، وهو مع كل هذا كان خطوة لا بد منها، لأن الحق وحده لا يصل
إلى الناس إلا إذا حملته دولة، وحمته قوة، ودافع عنه رجال، ولقد بلغ وعي
المسلمين حدا صاروا به أهلا لتحمل هذه التبعة، فهم لم يبايعوا على شيء
يجهلونه، وإنما كان الأمر من الوضوج بحيث لا يحتاج إلى بيان أكثر، فهم
يبايعون على حرب الأحمر والأسود، دفاعا عن عقيدتهم، وتمكينا لدولتهم.
المدينة عاصمة الدولة:
كانت المدينة هي العاصمة الأولى للدولة الاسلامية، وكان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - هو الزعيم الأول لهذه الدولة، وكان دستورها هو كتاب الله وسنة رسوله
- صلى الله عليه وسلم - ولقد قال فيهما: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله
وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " (1).
لقد اوت المدينة الرسول حين شرده بلده، ودافعت عنه في الوقت
الذي تآمر عليه أهله، وهيأت له أرضا صلبة استطاع أن يقف عليها يوم أن
مادت الأرض تحت قدميه في مكة، وواسى أهلها المؤمنين بأموالهم،
ووسعوهم في دورهم حين صادر أهل مكة أموالهم وأخرجوهم من ديارهم،
لهذا ولأمور أخرى نذكرها استحقت المدينة أن تكون عاصمة للدولة
الإسلامية، وأن تظل عاصمة حتى بعد فتح مكة وفاء لما قدمت، واعترافا
بالجميل.
على أن المدينة فوق ذلك كانت تمتاز بأوضاع لم تكن متوفرة في مكة،
تلك الأوضاع ترشح المدينة لقيادة الجزيرة بجدارة وتجعل منها مركزا لإدارة
شؤونها الداخلية والخارجية، وتتلخص تلك الميزات فيما يأتي:
أولا: المدينة بلد زراعي، والزراعة من أهم العوامل التي تتوفر فيها
وسائل العيش، وهي في نفس الوقت تهىء لأهلها نوعا من
الاستقرار، لا يتوفر لغيرهم، فهم من الناحية الاقتصادية يمكنهم
الاستغناء عن غيرهم، حيث يتوفر لديهم طعامهم وشرابهم
__________
(1) السيوطي في الجامع الصغير عن الحاكم.
79