كتاب الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه

100…وكانت رعيته تشفق عليه لما ترى من حرمانه نفسه من طيبات أحلت له، حتى كلمة عتبة بن فرقد في ذلك، فقال: ويحك آكل طيباتي في حياتي الدنيا، واستمتع بها (1)؟.
وبهذه الشدة التي أخذ بها عمر -رضي الله عنه- نفسه، أخذ بها رعيته حتى أقرب الناس إليه.
قال محمد بن سيرين قدم صهر لعمر عليه، فطلب أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر، وقال: أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً (2).
ولم يكن ذلك التقشف خاصاً بطعامه بل تعدى ذلك إلى مظهره العام فقد كان يطوف على الناس في سوقهم وعلى كتفه الدرة ليؤدب العاصي منهم وعليه جبة من صوف مرقوعة بأدم رقعاً تبلغ أربعاً أو تزيد (3).
وكان -رضي الله عنه- يشترط على عماله ألا يظهر عليهم شيء يوصي بالكبر أو يمنعهم من الاستماع إلى شكوى المسلمين، فإذا فعل العامل شيئاً من ذلك فقد حلت عليه العقوبة، وكان يحاسب عماله، فإذا ظهر لأحدهم شيء جديد من المال لم يكن عنده، أخذ منه نصفه، وترك له النصف الآخر (4).
هكذا كان عمر، وهكذا كانت سياسته المالية والإدارية، وكم من الناس يطبق ذلك أو يقدر عليه، والنفوس البشرية مطبوعة على حب المال، حريصة على جمعه، شغوفة باقتنائه والمباهات به وكلما وجدت السبيل إليه لم تقصر في تحصيله باذلة في سبيل ذلك كل جهد ومقدور أو غير مقدور.
لم تكن مبالغة إذن عندما نقول: إن الناس قد ضاقوا ذرعاً بهذا التقشف الذي فرضه عمر عليهم فرضاً، وأجبرهم عليه طوعاً أو كرهاً، وبخاصة، وقد فتحت عليهم الدنيا أبوابها، فلماذا لم يستمتعوا بها حلالاً طيباً؟.

__________
(1) نفسه.
(2) نفسه ص: 130.
(3) نفسه ص: 129.
(4) السيوطي تاريخ الخلفاء ص: 128.

الصفحة 100