112…لقد استشرت الفتنة في الولايات الإسلامية كلها عدا الحجاز والشام، والذي يظهر من هذا العدد الضخم الذي رواه الطبري أن رؤوس الفتنة قد بذلوا جهداً مضنياً، وأنفقوا وقتاً غير قصير في إقناع هؤلاء الثائرين بالخروج على الخليفة، وحضر هؤلاء إلى المدينة وقلوبهم مملوءة بالأحقاد، ونفوسهم مفعمة بالبغضاء، وقد تمكن المحرضون من شحن رؤوسهم بالأكاذيب والافتراءات على الخليفة المظلوم.
ولم يكد هذا الجمع الحاقد يستمع إلى الخليفة وهو بدحض شبهة المغرضين، ويفند أباطيل المتمردين، حتى اقتنع بالحق الذي نطق به الخليفة، ولم يكتفِ بذلك بل حمل زعماء الفتنة على تصديقه، ورجعوا إلى بلادهم موفورين.
ولكن هل رضى الزعماء بهذه النتيجة؟ وهل كانت هذه الجولة هي خاتمة المطاف؟ لو كان الأمر كذلك لأغلقت أبواب الفتنة، ولأوصدت نوافذ الشر، ولأصبح المسلمون في عافية من هذا البلاء مجتمعين حول خليفتهم، يسددونه إذا أخطأ، ويقومونه إذا حاد، ويعضدونه في مسيرته الطويلة لنشر الحق، ورفع الظلم، وإعلاء كلمة الله.
لم تكن تلك النتيجة مرضية للزعماء، وإن أقنعت العامة، وجعلتهم يضغطون على رؤوساهم ليقبلوها ويرضوا بها، وبالتالي لم تكن تلك الجولة خاتمة المطاف لا بالنسبة للزعماء، ولا بالنسبة للغوغاء.
كنا نعتقد أن هؤلاء المنصرفين عن المدينة قد انصرفوا مقتنعين اقتناعاً لا يدع لدعاية المفترين مكاناً في نفوسهم، ولا يترك لحيل الكذابين مجالاً في قلوبهم، ولكن ذلك لم يكن، لأن المخدوعين كانوا من عوام الناس الذين لم تبلغ عقولهم رشدها لتدرك ما وراء الخديعة من بلاء دبره قادة الفتنة للمسلمين.
وهكذا العقول الساذجة التي لم تتمرس بحياة الخداع والمكر، والقلوب الخاوية التي لم تملأ بالإيمان والعلم يسهل على ذوي النيات السيئة التلاعب بها، ولا يسعب على أهل الأهواء والأغراض إقناعها بما يريدون.
…